د. عبد الحليم قنديل يكتب: أنا دمى فلسطينى

فى هذا المقال الشجى تكاد تسمع صوت د. عبد الحليم قنديل، يصدح بتلك التعويذة السحرية التى ألقاها غنائا حفنة من الشباب المصرى فى وجه نفرا من عصبة الشر الإسرائيليين فكادت تفتك بأعصابهم.
كل ما فعله الشباب، عندما جمعتهم الصدفة بعدد من الإسرائليين، على ظهر مركب سياحى، هو أن أطلقوا حناجرهم بأغنية المطرب الفلسطينى الشاب “محمد عساف” ومطلعها: “أنا دمى فلسطينى”، ولك أن تتخيل ما حدث بالنسبة للإسرائليين، أو تقرأ فى المقال التالى للدكتور قنديل وتعرف ما حدث بالفعل، وتفاصيله فى نص المقال التالى:

كان التصرف عفويا غريزيا تماما ، وناطقا صادقا بفطرة المصريين الوطنية ، وواصلا عابرا إلى وجدان أجيال شابة ، عمرها أقل من نصف عمر ما تسمى “معاهدة السلام” مع إسرائيل ، كان عدد من الطلاب المصريين على متن باخرة سياحية عند شواطئ “دهب” ، مدينة الرمال الذهبية الواقعة فى نقطة قريبة من حدود مصر التاريخية مع فلسطين المحتلة ، وما إن علم الطلاب بوجود حفنة سياح إسرائيليين على الباخرة ، حتى كان الرد التلقائى ، الذى جعل الإسرائيليين يفرون بجلودهم ، هلعا ورعبا من قصف غنائى مفاجئ ، صار واحدا من أيقونات الوطنية المصرية ، والتحامها العضوى بالهم الفلسطينى ، وفى صورة شريط “فيديو” حماسى للطلاب المصريين ، وهم يغنون “أنا دمى فلسطينى” .
بدت الصرخة الموسيقية بإيقاعها الفلسطينى ، كأنها تعويذة سحرية تفتك بأعصاب الإسرائيليين ، والأغنية كما هو معروف للمطرب الفلسطينى الشاب “محمد عساف” ، الذى زار القاهرة أخيرا ، وبدعوة رسمية من وزارة الثقافة المصرية ، وشارك فى الدورة الثلاثين لمهرجان “الموسيقى العربية” ، وصدح بأغنية “أنا دمى فلسطينى” وغيرها ، وكانت حفلته كاملة العدد وتزيد ، ولم يبق فيها موضع لقدم ، تماما كحفلات أشهر المطربين والمطربات العرب ، الذين تباروا بالأداء فى أهم محفل غنائى عربى جامع ، وشعر “عساف” ، الذى اشتهر بأغانيه ومواويله من نوع “على الكوفية” و”جينالك يا فلسطين” وغيرها ، وهو يغنى مع فرقته على مسرح “النافورة” بدار الأوبرا القاهرية ، وكأنه بين أهله فى “خان يونس” الفلسطينية.

ومن دون أن يفاجأ بحماس أجيال جديدة من المصريين، ربما لم يقرأ أغلبهم كتابا واحدا عن قضية فلسطين والصراع العربى الإسرائيلى، ولم يشهدوا جميعا، لاهم ولا جيل آبائهم الأقربين حربا واحدة من حروب مصر مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى، فقد دارت آخر حرب شاملة قبل ثمانية وأربعين عاما، ووصفها الرئيس السادات بعدها بأنها آخر الحروب، وأغلب ما يسمعونه أو يرونه فى وسائل الإعلام العامة، أن مصر عقدت مع إسرائيل “معاهدة سلام” قبل نحو أربع وأربعين سنة، وأن المسئولين المصريين والإسرائيليين يتبادلون الزيارات واللقاءات والمجاملات، لكن ذلك كله، لم يفتح قلوبهم للإسرائيليين، ولا نزع عروة المحبة الوثقى لكفاح الشعب الفلسطينى وقضيته، برغم أخطاء وخطايا وجرائم سابقة لفصائل فلسطينية فى حق المصريين، بالغت دوائر إعلام فى تضخيمها وتعميمها (قبل التفاهم الأمنى الملموس بين حركة حماس والسلطات المصرية المعنية) ، وأرادت أن تقيم بها “حاجزا نفسيا” بين المصريين والفلسطينيين، ربما على أمل إقامة جدار كراهية للفلسطينيين ، قد يفيد بالمقابل، فى فتح ثغرة بحائط الصد المصرى الشعبى للإسرائيليين، الذين لم يفلحوا أبدا فى مد جسور تطبيع شعبى مع المصريين، فلا يزال التطبيع عند أغلب المصريين عارا وخيانة، وجريمة مخلة بالشرف الشخصى، تسقط اعتبار مقترفها أيا ما كان اسمه ورسمه.

طالع المزيد|

«فتح» توحد صفوفها قبل خوض غمار الانتخابات المحلية فى فلسطين

نيفين جامع: ندعم حق فلسطين في الحصول على صفة مراقب بمنظمة التجارة العالمية

صفقات إسرائيل وحماس المعطلة.. وخبير ينصح بمنع تحويل المال القطري إلى غزة

وربما لا تكون من حاجة لتذكر أمثلة قريبة وبعيدة ، من الكاتب المسرحى الراحل على سالم ، إلى النائب السابق توفيق عكاشة ، إلى الممثل والمغنى الراقص محمد رمضان ، وكلهم مع غيرهم ، راحوا ضحية ضبطهم فى حالة تلبس بارتكاب الجرم المشهود ، بالدعوة إلى تطبيع شعبى ، أو التقاط الصور مع إسرائيليين ، وكان الجزاء احتقارا شعبيا غالبا ، وردود فعل وصلت إلى التعرض البدنى ، على طريقة ضرب توفيق عكاشة بالحذاء فى قاعة البرلمان ، أو “العلقة الساخنة” ، التى تلقاها محمد رمضان من شبان مصريين صادفوه فى الطريق ، برغم كذب رمضان دفاعا عن نفسه ، وادعاؤه أنه لم يكن يعرف “الهوية الإسرائيلية” لمن ظهر معهم فى “دبى” ، بعدها تراجع المطرب المصرى الشهير “محمد منير” عن إقامة حفل كان مقررا فى “القدس” المحتلة ، فقد ظل الرفض الشعبى المصرى التلقائى عنصر ردع جاهز مستنفر دائما ، ويجرى توريثه جيلا فجيل ، وعلى نحو شبه “جينى” ، لا يشترط فى صاحبه عملا بالسياسة ، ولا انتماء ولا اقترابا من حزب أو تيار سياسى بعينه ، فيكفى أن تكون مصريا لتعادى الإسرائيليين الغزاة ، وقد قدم المصريون فى الحروب مع الكيان الصهيونى أكثر من مئة ألف شهيد وجريح ومعاق ، وتضحيات تفوق تضحيات أى شعب عربى آخر ، وبمن فيهم الفلسطينيون ، ولم ينقطع حبل التضحيات أبدا بعد توقيع ما تسمى “معاهدة السلام” ، من الشهيد “سعد إدريس حلاوة” إلى “سليمان خاطر” و”أيمن حسن” ، وأبطال منظمة “ثورة مصر” الناصرية ، وإلى تضحيات المئات فالآلاف من المثقفين والنشطاء المصريين ، الذين طوردوا وسجنوا لرفضهم التطبيع مع إسرائيل ، وحالوا دون مشاركة الإسرائيليين فى معرض الكتاب والمعرض الصناعى وغيره ، وصنعوا دستورا شعبيا حاكما فى كافة النقابات المهنية والعمالية والفلاحية ، جعل “التطبيع” من موجبات إسقاط العضوية ، وجعل لقاء الإسرائيليين أم الجرائم ، برغم أن القانون الرسمى يعتبر أن “إسرائيل” دولة صديقة ، ويتبادل معها التمثيل الدبلوماسى ، ويعقد اتفاقات “الكويز” و”الغاز” ، وهو ما يرفضه الرأى العام المصرى بغالب أصواته ، ولا يقنعه كل ما يقال عن الفوائد الاقتصادية الضخمة ، التى تجنيها الدولة المصرية ورجال أعمالها .
نعم ، بين المصريين والإسرائيليين مواريث دم لاتصير ماء ، وهو ما صنع معادلة مميزة فى مصر بعد عقد ما تسمى “معاهدة السلام” ، معادلة يتصرف ويشعر فيها أغلب المصريين ، أن المعاهدة لا تعنيهم ، وأنها من عمل الحكومات الذى لا يلزم الشعوب ، فلن تجد شعبا عربيا يعادى الإسرائيليين أكثر من المصريين ، ولن تجد إسرائيل عائقا للتطبيع الشعبى أكثر من سواد المصريين العاديين ، فالقصة عند المصريين أكبر من مصير سيناء ، وقد عادت سيناء لمصر رسميا مع عقد المعاهدة ، ثم عادت فعليا لا صوريا ، بعد إنهاء ودوس مناطق خفض ونزع السلاح ، وفرض أمر واقع جديد ، جرى ترسيمه مؤخرا باتفاق تعديل الملاحق الأمنية للمعاهدة ، وبتضحيات دم هائلة من الجيش المصرى ، فى حرب حملت رسميا عنوان “مكافحة الإرهاب” ، لكنها كانت وتظل فى مغزاها الكلى، حربا لتحرير سيناء فعليا ، ووصلا لما كان انقطع منذ وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر 1973 ، التى لم تكن آخر الحروب كما تصور السادات ، فوجود إسرائيل فى ذاته خطر على الوجود المصرى فى ذاته ، وقضية فلسطين مسألة وطنية مصرية ، وهذه عقيدة الشعب المصرى كما عقيدة الجيش المصرى ، برغم تقلبات السياسة وأنظمة الحكم ، فالشعوب وضمائرها وجيوشها الوطنية هى الأبقى ، ولا صوت يعلو شعبيا فى مصر على صوت العداء لإسرائيل ، حتى لو تكاثرت خطط الالتفاف السياسى والثقافى والدينى.

وجرى التلاعب بالصيغ والرموز المقدسة ، وعلى طريقة دعوى “الديانة الإبراهيمية” مثلا ، ولم يكن مفاجئا لأحد ، أن الدعوى الهجينة المريبة ، تلقت الضربة الحاسمة من مصر بأزهرها وكنيستها ، وفى مناسبة بدت داخلية تماما ، ففى لقاء احتفالى جرى أخيرا بالذكرى العاشرة لإنشاء “بيت العائلة” ، وهو منبر تأسس عام 2011 ، بناء على مبادرة مشتركة من الأزهر والكنيسة ضد الاحتقانات الطائفية ، وسرعان ما تحول اللقاء عن الشواغل الداخلية المصرية ، وبدت كلمات المشايخ والقساوسة المشاركين ، كأنها طلقات مصوبة عمدا ضد “الدعوى الإبراهيمية” واتفاقات تطبيعها عربيا ، وأعلن شيخ الأزهر رفضه لدعوى “الديانة الإبراهيمية” ، وعدها دعوى سياسية معادية ، تصادر على حق المسلمين كما المسيحيين فى حرية الاعتقاد والإيمان وكسب حرية الأوطان ، وهو نفس ما ذهب إليه قادة الكنيسة المصرية ، وبدا الموقف سياسيا مقصودا فوق أصالته الدينية ، برغم ما هو معروف من صلات حسنة بين الحكم المصرى وبلدان الدعوى والاتفاقات “الإبراهيمية” ، وبرغم ماهو معروف أيضا ، من طبيعة صلات الدولة المصرية الممتدة مع “الأزهر” و”الكنيسة” ، وكلها سمحت بأن يجرى ما جرى ، فالدولة المصرية ذات السلوك المركب المعقد متعدد الطبقات ، قد لا تمانع فى عقد اتفاقات رسمية مع إسرائيل ، لكن أجهزتها تعيق عمليا أى تطبيع شعبى مع إسرائيل ، على نحو يستجيب جزئيا للشعور الشعبى العام ، ويراعى جوانب التحصين الأمنى فى الوقت ذاته.

وقس على ذلك ما جرى بعد حادث اقتحام وإحراق الشباب المصرى لمقر السفارة الإسرائيلية الأول على شاطئ النيل بالجيزة ، ثم نقل مقر السفارة إلى منزل السفير ، والرقابة اللصيقة المفروضة ، التى تجعل لقاء سفير العدو بأى مصرى عملا باهظ الكلفة ، وحتى فى مزارات سياحة سيناء ، لا يخفت دبيب المراقبة ذاتها ، فكل إسرائيلى زائر قد يكون جاسوسا محتملا ، وهو ما يفهمه المصريون المعنيون ضمنا ، ويطلق مشاعرهم المختزنة بالصدور وقت الحاجة ، وعلى طريقة ما فعل الطلاب المصريون ، الذين طردوا الإسرائيليين بسحر تعويذة “أنا دمى فلسطينى” .

زر الذهاب إلى الأعلى