الربيع الرحيمة إسماعيل يكتب: موت التواجد.. ما بين العزلة و الإنطفاء
حضر إلى جلستنا مختلساً ، القى السلام ثم جلس ، جسداً بلا روح … ظل ممسكاً بهاتفه مطأطأ الرأس صابّاً كل اهتمامه على تلك اللعبة، بينما كنا نتسامر نحن على الجانب الآخر.
ساوره القلق على شحن هاتفه فهرع مسرعا ً مخافةً إغلاق الهاتف قبل انتهاء اللعبةمما اضطّره للعودة إلى غرفته بحثاً عن الشاحن دون إستئذان ، لم يتفقده أحد ، بل على الأحرى لم يشعر بحضوره أحدٍ البتة… !
جاء و خرج و هو في عالم آخر ، ضمن واقع إفتراضي آخر … جسداً كان معنا لدقائق … قد يبدو مجسماً لا بأس به لمن يحمل كاميرا تصوير اللحظات و تحليلها ، لكن لذاته و لمن حوله لم يكن موجوداً البته.
الموت كمؤشر للغياب لا يختلف كثيراً عن حالة صاحبنا…!
هل أبدو لك مبالغاً ؟
أعتقد أن الحد الفاصل ما بين فرضية الموت و التواجد … هو ذاك الإحساس الموحي ب أنك لست هنا ، غير موجود الآن ، في عزلة عن هذا العالم .
وبالتالي عدم وجودك الحالي و انت من بين الأحياء قد لا يمثل فرقاً شاسعاً عن الموت.
لقد عبّر عنها أنطوان تشيخوف بصورة أكثر وضوحاً و فظاعةً في قصة ذاك الحوذي الذي مات ابنه ، وجوده مهدر ذاك الكائن الضعيف ، المقذوف به بعيداً عن هذا العالم ، إذ لا تربطه بالعالم سوى حكاية حزينةً يريد أن يحكيها و لا يجد أحد يسمعه.
ذاك الإنسان المهدر وجوداً و حكايةً … مهدرةٌ أحزانه…و آلامه.
أولئك الذين يستغلون أي فرصة في المواصلات أو أي حدث ليحكو مرة أخرى حكايتهم الوحيدة ، التي تعد بمثابة دليلهم الوحيد على أنهم وجدو يوماً و أنهم عاشو فعلاً ، يريدون اعترافاً مؤقت بوجودهم في هذا العالم.
لكني أعتقد أن حوذي تشيخوف كان أكثر بؤساً لأن غيابه قسري ، منبوذٌ عن الحياة ، شخص مهدر التواجد.
أما نحن فقد اخترنا الغياب عن عمد ، إرتضينا نوعاً آخر من العزلة الممهد لها من عالم إفتراصي آخر بوعي أو بلا وعي منّا ، حين سمحنا لتواجدنا الحقيقي أن يكون هشاً بلا معنى.
هذه العزلة التي نعيش فيها و التي تتجلى في شتى الميادين و لا سيم في عصرنا الحاضر هذا.
عصر العزلة الذي لم ينتهي بعد ، بل لم يصل حتى إلى ذروته بعد ، فقد أصبح الفرد منا يجهد ذاته في سبيل تحقيق الحياة كاملة مبتعداً عن الآخرين ساعياً إلى السعادة الفردية ، و لكن هيهات أن تؤدي هذا الجهود إلى تذوق الحياة كاملة ، فهي لا تقود إلا إلى فناء النفس فناءاً كاملاً و لن تنتهي بنا إلا إلى نوع من الإنتحار الروحي.
التواجد يعني أن تكون حضوراً بكل ما تعنيه الكلمة ، أن تشعر بك في نفسك …و في الحياة من حولك.
كتب نيتشة ذات مرة : “أريد للحياة أن تتدفق، أن تكون فيَّ و خارجي على سواء مُسرِفة وخصبة، ما أمكنَ ذَلك”.
قد يبدو الموت قاسياً ، خصماً على الوجود ، لكن موت الحضور أشد قساوةً و ألماً .
معضلة الموت بكل تشكلاتها ستظل حاضرة في وعيك … و ستحيا في صراع معها إلى أن تثبت وجودك ، وقتها فقط… سيضحي لموتك الحقيقي معنىً و أثر.
إياك أن تكون خاوٍ كصاحبنا ذاك ، جسداً بلا حضور.
حينما مُنِحت تذكرة الحياة يا صديقي ، كان الغرض أن تكون فاعلاً … أن تضفي عليها بريقاً ، أن ترسم بريشتك المتفردة لوحةً تزيد الوجود ألقاً أو تمحو عنه بها بعضاً من البؤس.
أن ترقص رقصتك الخاصة على إيقاعك المحبب ، ثم تمضي.
و حينما تفعل ذلك بكل عنفوانك و ضراوتك …وقتها فقط … ستمضي بهدوء بعد أن تروي حكايتك لهذا العالم ، بعد أن تتمثلها حضوراً و تواجداً ، و ربما وقتها فقط ستردد بكل فخر و هدوء ” لقد كنت هنا يوماً ما … لقد عشت الحياة”.
اقرأ أيضا للكاتب:
-
الربيع الرحيمة إسماعيل يكتب: بين ثقافة التوقع والسؤال.. آن الأوان لتعرف
-
الربيع الرحيمة إسماعيل يكتب: مراجعة رواية ظل الريح ـ مقبرة الكتب المنسية