د. ناجح إبراهيم يكتب: أزمة الإسلاميين المستعصية.. بين الأديب والواعظ والفقيه

لاشك أن هناك أزمة تعانة منها مصر والعالم العربي، وتكمن فى أن الواعظ والداعية مصدق في كل شيء حتى وهو يتحدث عن السياسة والاقتصاد والعسكرية والعلاقات الدولية والإستراتيجية، والداعية نفسه أنه يستقصي معلوماته دوماً من مجموعته من أصدقائه قد يكونون في منتهي الضحالة في هذه المسائل, لذلك عليه أن يكتفي بالوعظ والدعوة فحسب، كما يطالبه د.ناجح إبراهيم، الذى تحدث عن ملابسات الأزمتين بتوضيح أكثر فى مقال حمل عنوان “أزمة الإسلاميين المستعصية..بين الأديب والواعظ والفقيه”، وتم نشر المقال في جريدة المصري” وهذا هو نص المقال:
• أزمة الحركة الإسلامية وجمهورها العريض تكمن في أمور منها عدم التفريق بين الداعية والفقيه, والواعظ والمفتي, والداعية والسياسي, والأديب والفقيه, فإذا بالشباب يترك الفقيه والمفتي في المسائل الخطيرة ليتلقي من الواعظ والداعية فتواه وكلماته وأحاديثه في أخطر مسائل الدماء والحروب وتكفير الحكام والعوام أو استباحة دماء الجيوش الوطنية أو الشرطة المحلية أو الخروج المسلح علي الدولة وأجهزتها السيادية.
• وقد يخلط هؤلاء بين الأديب والفقيه فيأخذ عن الأديب كلماته الرنانة وعباراته التي تدغدغ العواطف.
• وهذا ما حدث مع كل من تأثروا بالأستاذ سيد قطب فأنزلوا المعاني الأدبية العامة وكلماته الفضفاضة التي تحمل عشرات الأوجه منزلة المحكم من القرآن أو الثابت من السنة أو المجمع عليه من الدين دون أن يفرقوا بينه كأديب وبين المفتي والفقيه الذي يزن كلماته بميزان الذهب.
• وزاد الطين بلة إنزال كلمات الثائر المهتاج الذي يريد هدم الكون ثم إعادة بنائه علي نمط يتخيله في عقله وبين المصلح الحكيم الذي عركته الأيام ورسخت في عقله ألاف التجارب وجمع عشرات العلوم فإذا بالجموع الغفيرة تترك كلمات المصلح الحكيم لتطوف حول هتافات الثائرين التي قد تفتقر إلي أدني درجات العقل والحكمة والتي لو سار الكون بها لانهدم كل يوم مرات.
• وقد تجد داعية أو واعظاً يقفز من موقع الوعظ إلي الترشح لرئاسة الجمهورية وهو لم يدرس ولا يعرف شيئاً عن السياسية والدولة,فيظن أن رجل الوعظ والدعوة يصلح لحكم الدولة والأدهى من ذلك التأييد الكاسح الذي يلقاه من الجموع الغفيرة ولولا منع من الترشح لفاز,فهي أزمة مشتركة بينه وبين الناس,فلا هو عرف مهمته ولا الناس أدركوا قدراته.
• كلمات الثوار والوعاظ والدعاة والساسة والأدباء هي التي يتبعها أكثر الشباب والعوام وتروق لهم أكثر بكثير من كلمات الفقهاء والعلماء والحكماء التي تكون عادة أكثر تريثاً وحكمة وأناة وترفقاً ورحمة وعفواً وصفحاً.
• والعقل الجمعي خاصة في وقت الهياج لا يحب عقول الفقهاء والحكماء والعلماء لأنهم لا يشترون رضا الناس بسخط الله ولا يدغدغون العواطف أو يستثيرونها بالكلمات الرناتة الطنانة,وما أزمة الشيخ يعقوب كواعظ إلا جزءً من هذه الأزمة فأنصاره وأتباعه كانوا أكثر من أتباع أكثر علماء الأزهر رسوخاً في العلم والتقوى.
• لقد أثرت أفكار الأديب المعروف أ/ سيد قطب في كل الجماعات التي حاربت حكوماتها ورفعت السلاح عليها لان عبارات الأديب الرناتة أقوي أثراً من كلمات الفقيه الدقيقة.
• أكثر الشباب والعوام يتصور أن كل متحدث في الدين قادر علي صياغة الأحكام الفقهية لأنهم يرون قدرته علي تنميط الكلام وشحذ الهمم واستشارة العواطف والتحدث في موضوعات عامة مختلفة بأحاديث عامة فيها أطلاقات مخلة وغير موضوعية,ناسين أن صناعة الفقيه أو المجتهد في الفقه تستغرق عشرات السنين حتى يتعلم القياس والاستنباط ويعرف حكم الله في المسائل ويقرأ الشريعة والواقع جيداً ويستطيع قياس المصالح والمفاسد ويدرك فقه الأولويات والمآلات.
• ولا يعني ذلك أن الواعظ والداعية مذموم ولكن عليه أن يعرف قدره وأن يدرك السامعون قدره,فلا يسألوه عن المسائل الخطيرة وخاصة في الدماء والأموال والأعراض والمسائل العامة والتي تنظم أمر الأمة والدولة.
• فحين أسلم مطرب الراب الشهير “كات ستيفنز” وغير اسمه إلي يوسف إسلام نشط في مجال الأناشيد الإسلامية وكذلك الوعظ وهذا حسن, ولكنه بعد فترة ودون حذر انطلق من هذا الدور إلي دور الفقيه والمفتي وبيان الحلال من الحرام, وهذا ينسحب علي الكثيرين في حياتنا ممن لا أريد ذكر اسماءهم لأنني عاهدت الله ألا أذكر أحداً إلا بخير.
• أحياناً قد يقع اللوم علي الشباب والدهماء والعوام الذين يجبرون الواعظ والداعية بل وقارئ القرآن بصوت جميل والأديب والإعلامي أن يقفز فجأة من دوره الوعظي إلي دور من يفتي في أدق المسائل وأصعبها ويبيح الدماء المعصومة أو يكفر الخلائق بل يكفر بالجملة.
• ومن أكبر المصائب التي عشتها بنفسي أنك ترى الشباب المتدين الغض الطري كلما أعجبه خطيب أو متحدث نقله من خانة الكلام الوعظي العام إلي أن يكون مسؤولاً عن جماعة أو جزءً هاماً من جماعة قد تتورط بكلماته في الدماء المحرمة.
• بل إنني رأيت البعض يلتقط كلمات عابرة من خطيب أو واعظ ليكفر أشخاصاً بعينهم ثم يعمد إلي تصفيتهم واغتيالهم, ولو أنه تريث قليلاً ليجلس فقط إلي هذا الداعية لأقنعه أنه لا يقصد هذا المعني الذي ذهب إليه وأنه ينقده ولا يكفره ويلومه ولا يعتبره عدواً للإسلام.
• فالداعية وإمام الصلاة وخطيب الجمعة والواعظ والباحث والمفكر والإعلامي والأديب كلهم يختلفون جذرياً عن الفقيه, ولا تؤخذ عنهم الأحكام الفقهية العادية فما بالكم ما فيه تمزيق للأمة وتكفير للخلائق وشق للصفوف وهدم للثوابت وإراقة الدماء وبث الخوف والرعب بالتفجيرات والاغتيالات.
• لم ينتبه أحداً أن أ/ سيد قطب سمى تفسيره “في الظلال” وهو تفسير أدبي فضفاض لا تؤخذ منه أحكام, وتعظيم وتقديس صاحبه هي جناية عليه قبل أن تكون جناية علي الإسلام, فكل من ناقش أو نقد “الظلال” يرفع له لواء: أين أنت من الشهيد”.
• نحن لا نعيب أشخاصاً ولكننا نقرر بوضوح أن هذه الكتب تحمل رسالة تكفيرية لا تخطؤها العين المبصرة, وتحول حكام المسلمين جميعاً ومعهم المؤسسات السيادية إلي معسكر الشرك في قريش, وتحول كل الجماعات إلي جماعة الرسول الأولى.
• ولم يقل بذلك أحد من قبله ولا من بعده وجاء ذلك في سياق أدبي يتسلل إلي النفوس خلسة ويتدرج حتى لا يشعر القارئ بنفسه إلا وهو من غلاة التكفير, فالاستعلاء بالإيمان يتحول إلي علو بالذات واستباحة لإعراض الآخرين, وجاهلية القوانين تكفر البرلمان, وجاهلية الحكم تكفر الحكام والمؤسسات السيادية وهكذا.
• كل هذه الانزالات تمت في عقول الشباب من الستينات وحتى أبو بكر البغدادي الذي قرأ الظلال عشرات المرات في سجن بغداد.
• إن أزمة مصر والعالم العربي أن الواعظ والداعية مصدق في كل شيء حتى وهو يتحدث عن السياسة والاقتصاد والعسكرية والعلاقات الدولية والإستراتيجية.
• أما أزمة الداعية نفسه انه يستقصي معلوماته دوماً من مجموعته من أصدقائه قد يكونون في منتهي الضحالة في هذه المسائل, عليه أن يكتفي بالوعظ والدعوة فحسب, فلا يعني كونك داعية أن تتحدث في كل هذه القضايا, ولابد لهؤلاء وكذلك الإعلاميين أن يعترفوا بضحالة علومهم في أكثر المسائل التي يتحدثون فيها, ولذا يقع هؤلاء جميعاً بين مطرقة التكفير وإلغاء الآخر أو النفاق الممجوج, ولا ثالث لهما, سلام علي العلماء والحكماء.

زر الذهاب إلى الأعلى