القس بولا فؤاد رياض يكتب: الْقَلَقُ

الْقَلَقُ يأتي بإعطاء الأمور الأقل قيمة، ووزناً نسبياً أعلى في الحياة. فتختل منظومة وجودة وحقيقة حياته. فحينما يكون الاهتمام الأول في الحياة بالأمور الخارجية ووسائل الحياة، أكثر من أساسيات الحياة، والقيم الحقيقة، تختل موازين الحياة ويصير الإنسان قلقاً لأجل أمور تافهة.
هكذا لفت السيد المسيح له المجد نظر مرثا حينما كان جالساً في منزلها، وحينما كانت أختها مريم جالسة عند قدميه تستمع إليه، وتتعرف على حقيقة الخلاص والوجود الحقيقي. كانت مرثا مشغولة بأمور كثيرة. بل وطلبت من السيد له المجد أن يصرف مريم لكي تهتم هي الأخرى بهذه الأمور فقال لها: «مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لوقا 10: 41- 42).

اقرأ أيضا للكاتب:

إن العالم هو مكان القلق، ومصدر القلق. بينما السيد المسيح هو مصدر العزاء. وحيث يوجد المسيح توجد الراحة. ألم يقل لنا: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28).
كل من عاش واختبر قلق العالم ثم وَجَدَ المسيح أو وَجَدَهُ المسيح، وعاش معه شعر بالراحة والشبع والطمأنينة.
القديس أغسطينوس يقول: «لقد خلقتنا مُتجهين إليك يا الله، لذلك ستظل نفوسنا قلقة حتي تجد راحتها فيك»
– ما هو الْقَلَقُ؟
الْقَلَقُ يأتي نتيجة انحراف الإنسان بفهمه وعقله وسلوكه عن هدف وجوده الحقيقي.
الْقَلَقُ يأتي نتيجة ترتيب الأولويات ترتيباً خاطئاً.
فالْقَلَقُ يأتي من ضياع استقرار حياتنا، وبناء الحياة على أساسيات متغيرة «الإنسان يحيا في بئر من القلق، يشتهي ويبتغي، ويريد ولا يشبع»
سبب قلق الإنسان أنه يبحث عن الشبع في عالم كله جوع، ويبتغي الوجود في قبض الريح، ويريد الحياة من الموت. وهذا هو سر القلق، أنه يبحث في الاتجاه الخاطئ للشبع. فالمادة لا تُشبع.
لقد خلقنا الله على شبهه ومثاله. وهذا جعل الإنسان يبحث دائماً عن المُطلق ليشبعه، وليشعره بالاكتفاء. لذلك فكل الاشياء المادية لا تُشبع الإنسان لأن داخله احتياج للمُطلق.
وهذا هو سر توحش الإنسان. فإنه يحاول أن يَشبع من المادة، ولا يستطيع. فيزداد طلبه أكثر من المادة علها تُشبعه. وفي طَلَبِه للشِبَع يدوس على كل القيم وتموت كل الحقائق، فيتوحش أكثر فتزداد مخاوفه الداخلية ويزداد القلق أيضاً.
كلما زادت الصور المادية الاستهلاكية، كلما ظهر فساد الإنسان. ويُقال عن يوليوس قيصر أنه كان شرهاً جداً في الأكل، ويحاول أن يصل إلى حالة الاشباع، ولم يستطع. فكان حين يأكل تمتلئ معدته، ولكن نفسه لم تشبع بعد. ويريد أن يأكل أكثر وأكثر فكان يضع يده في فمه ليُفرغ معدته، ويستطيع أن يأكل مرة أخرى. إنها المادة التي لا تشبع بل تجعل الإنسان متوحشاً.
فالْقَلَقُ يأتي نتيجة عدم الشبع. وإن الشبع يأتي من الداخل حيث تمتلئ النفس والنفس لا تهدأ إلا بهدوء الروح، والروح لا تشبع إلا من الله. فكل محاولات المادة لإشباع البشر تفشل، بل تؤدي إلى نتائج عكسية. فالمادة لها دور في الحياة وليست هي الحياة وإنما «الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ» (فيلبي 1: 21).
– إيه اللي بيعمله الْقَلَقُ في الإنسان؟ ماذا يصنع الْقَلَقُ؟
الْقَلَقُ.. يجعل الإنسان فاشلاً في كل شيء حتى وإن كان لديه كل شيء. لأنه يسرق منه الرضا بما هو فيه، ويسرق منه الشعور بالراحة والسعادة. مما يجعله يدخل في أمراض نفسية كثيرة، ويُدخله في حالة من الإحباط الدائم، وعدم الإيمان فتتشوه الروح وتتعب النفس ويمرض الجسد.
الْقَلَقُ.. سر أمراض كثيرة للنفس، وهو أيضاً سر كثير من الخطايا، وسر أمراض كثيرة للجسد.
الْقَلَقُ وأمراض الروح
الْقَلَقُ يؤثر على الروح إذ يجد الشيطان فرصة مع القلق كي يًسلب الإيمان، ويُدخل في النفس الضعف والقنوط والخوف، وقد يستطيع أن يُقنع الإنسان بارتكاب خطايا كثيرة كيما يهدئ من قلقه.
هكذا مثل لصوص دخلوا إلى السوق، وأرادوا أن يسرقوه.. فإنهم يفتعلون مشاجرة حتى ينشغل الكل بهذه المشاجرة، فيدخلون ويسرقون أغلى الاشياء. هكذا فإن إبليس يُزيد من القلق داخل النفس حتى إذ ينشغل الإنسان بهذه الأمور، فيأتي هو ويسرق الإيمان والرجاء، ويدخل الإنسان المُثابر والواثق من الله والمطمئن في حياته.
لا أعمل كذا وكذا، هذا الموضوع لا يصلح لي.. كأنني أنا وزير التخطيط!
أنا أخطط والله ينفذ.. لا
اترك الله يعمل ما يشاء، وارضي أنت بما يعمله الله.
الإنسان منا أوقات كثيرة يُخطط لنفسه ويُدبر لنفسه، يحلم أحلام يقظة، ويريد أن الله يخضع لما يريده ويدبره ويحلمه. وهذه كانت أول خطية في الخليقة كلها.
خطيئة الشيطان..
بدأ يُدبر لنفسه ويبنيها ويكبرها حسب هواه
«أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ، أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ». (أشعياء 14: 13، 14)
والنتيجة «انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ». (أشعياء 14: 15)
خطيئة آدم أيضاً هي نفسها خطيئة الشيطان لأنه بدأ يُدبر لنفسه كيف يصير مثل الله عارفاً الخير والشر.
وعندما بدأ يبحث عن المعرفة خارج الله حصل له إيه؟
سقط.. وهي نفسها خطيئة الذين بنوا برج بابل. جلسوا يخططون لبناء أنفسهم ففشلوا.
«هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ» (تكوين 11: 4)
هذه النقاط الثلاثة هي نقاط فاصلة في حياة البشرية وانفصالها عن الله.
أمثلة التسليم في حياة رجال الإيمان:
1- أبونا إبراهيم: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ» (تكوين 12: 1) لم يسأل إلى أين؟ ولا لماذا؟ بل أطاع. «بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ» (عبرانيين 11: 8).
والتسليم أيضا في تقديم أسحق محرقة. ابن الموعد الذي طال انتظاره 25سنة. ابن الشيخوخة. ولم يناقش ابراهيم ولم يتردد في التنفيذ.
إذن حياة التسليم تظهر في الدخول من الباب الضيق والطريق الكرب في الأمور الصعبة جداً في التنفيذ.
2- أبونا نوح: لما أمره الله ببناء الفلك. بناه ولم يسأل! (حياة التسليم)
3- موسى في البرية: لما أمره الله بعبور البحر الأحمر. موسى كان يجادل في بدء ارساليته إلى فرعون، ولكنه لما نما في الإيمان والتسليم، لم يجادل في دخول البحر الأحمر سائرين في البرية وراء المجهول.
هل كان يعلم إلى أين يذهب؟ ما كان يعلم شيئا سوى أن الله يقوده بالسحابة وعمود النار وهو لا يسأل إلى أين!
4- العذراء مريم: أنا يا رب أحب البتولية، وأحب أن أسكن في بيتك. «وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي» (مزمور27: 4). لكن رضيت يا رب أن أسكن مخطوبة مع رجل شيخ، وليس ذلك فقط ولكن أرسلت لي ملاكاً وتقول لي ستحبلين وتلدين ابنا!! ماذا كان رد فعلها «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لوقا 1: 38)، وبعد ذلك تتعرض للاضطهاد من هيرودس.
«لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» تهرب إلى مصر، وتقود إلى الناصرة التي لا يخرج منها شيء صالح، وأيضا تقول «لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ».
5- الأباء الرسل: كان لهم طاعة تلقائية وراء الرب «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ» (متى 4: 19)، ويقول لمتى (لاوي) «اتْبَعْنِي» وهو جالس عند مكان الجباية «فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ» (لوقا 5: 28).
بُطرس الرسول يُلخص حياة الأباء الرسل في عبارة «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ» (لوقا 18: 28) ولم يحاول أحد منهم أن يطمئن على مستقبله (ما كنش حد فيهم قلقان على مستقبله) لم يحصل أحد فيهم على ضمانات في هذا العالم. لا يعلمون إلى أين؟
المسيح الذي تبعوه قِيل عنه «َلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متى 8: 20)
لو سُئلوا أنتم ماذا تعملون؟ يقولون لا شيء. المسيح هو الذي يعمل كل شيء.
وعندما دعاهم قال لهم َ«َلاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ» (متى 10: 9)
وكل واحد منهم ذهب إلى بلد، لم يكن يعلم إلى أين يذهب، ولا ماذا سيفعل، لم يكن هناك كنيسة يستقر فيها، ولم يكن له هناك شعب أو مسكن، لكن مقاومات من الوثنية واليهودية في كل مكان كما فعل مرقس الرسول في مصر وغيرها، لكن الله الذي أرشد خطاه إلى أنيانوس وأكمل الله.

…………………………………………………………..

الكاتب راعى كنيسة مارجرجس المطرية- القاهرة

زر الذهاب إلى الأعلى