القس بولا فؤاد رياض يكتب: الإدانة
الإدانة هي الحكم على سلوك الغير، هي من الخطايا الخطيرة جداً لأنها اغتصاب حق الله الديان الذي سوف يُدين العالم يوم الدينونة الرهيب، ولقد حذر السيد المسيح من إدانة الناس قائلاً: لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ (الخطية الخطيرة) الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ (أنت) يَا مُرَائِي، (مُدعي التدين) أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! (متى 7: 1- 5) إذاً من يَكيل رحمة.. سيجد رحمة، ومن يَكيل ظُلماً أو افتراء وقسوة.. فسوف يُكافئه الله بالمثل. لهذا يقول القديس بولس الرسول: لِذلِكَ أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ. لأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ الأُمُور (هذه الخطايا) بِعَيْنِهَا! أَفَتَظُنُّ هذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ، (الشرور) وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا، أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ؟ وَلكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ (الحساب) وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ، الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ. (الصالحة أو الطالحة) لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ. (رومية 2: 1- 10).
الله القدوس هو الذي أعطى الوصية، وهو يرى ويُقيّم تماماً الموقف الحقيقي للإنسان من الوصية.
اقرأ أيضا للكاتب:
فمن يُدين أخيه يُعين نفسه قاضياً على أخيه، ويُعطل عمل لله لبنيانه وبنيان أخيه. أما الإنسان المُتضع والمُنكسر أمام الله فهو يضع نفسه تحت فحص الله، وتحت يد الله القوية، فيرفعه الله في حينه وبذلك يُصبح قدوة لأخيه. فيعمل مع الله لخلاص ورفعه أخيه. لذلك يحذرنا الله من أن نَذم بعض أو نُدين بعض لا يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ. الَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ يَذُمُّ النَّامُوسَ وَيَدِينُ النَّامُوسَ. وَإِنْ كُنْتَ تَدِينُ النَّامُوسَ، فَلَسْتَ عَامِلًا بِالنَّامُوسِ، بَلْ دَيَّانًا لَهُ. وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ النَّامُوسِ، الْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ. فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ؟ (يع 4: 11، 12) والسؤال هل يُدينني الله أيضا لو أدنت إنسانا أخطأت إليه خطأ مباشر؟
الإجابة على هذا السؤال: نعم.. لأنك بذلك تسلك ضد طبيعة الله، فإنه مُنعم على غير الشاكرين والاشرار لعل نعمته تقودهم للخلاص، ورحمته تقودهم للتوبة كما هو مكتوب في رسالة رومية: أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟
لذلك قال السيد المسيح: فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ.
سؤال: لكن ألا يُساعد هذا الأسلوب على انتشار الشر في العالم؟
ربما كان هذا صحيحاً لو كان الله ميت (حاشا)!، لكن الله حي إلى الأبد، وهو حامل كل الاشياء بكلمة قدرته، وهو الذي يُدير هذا الكون للخير لمحبيه وحافظي وصاياه، وهو الذي أعطانا الوصية لكي نتشبه به في تعاملاته مع البشر، وهو في النهاية أقام يوماً هو فيه مُزمع أن يُدين المسكونة بالعدل، فيأخذ الأبرار إلى الحياة الأبدية ويُهلك الأشرار في النار الأبدية. فما أحلى أن أؤمن بالله الحي الموجود، وأطيع كلمته، وانتظر يوم مجيئه وحينئذ سأعرف كل شيء، ولكن الآن يُحذرنا الله من أن نحَكم على غيرنا، ومكتوب: إِذًا لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرَّبُّ الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ. ومكتوب أيضاً: لأننا أَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ. وأما أنت فلماذا تُدين أخاك، لماذا تَزدري بأخيك لأننا جميعاً سنقف أمام عرش الله لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «أَنَا حَيٌّ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّهُ لِي سَتَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، وَكُلُّ لِسَانٍ سَيَحْمَدُ اللهَ. فَإِذًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيُعْطِي عَنْ نَفْسِهِ حِسَابًا للهِ. فَلاَ نُحَاكِمْ أَيْضًا بَعْضُنَا بَعْضًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ احْكُمُوا بِهذَا: أَنْ لاَ يُوضَعَ لِلأَخِ مَصْدَمَةٌ أَوْ مَعْثَرَةٌ.
هل توجد أمثلة في الكتاب المقدس توضح خطورة الإدانة؟
الكتاب المقدس غني بالأمثلة التي توضح هذا الأمر
عندما وجد فيلبس نثنائيل وقال وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع الذي من الناصرة. بماذا رَد عليه نثنائيل! قال أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟، وهنا نرى نثنائيل قد أدان الناصرة، وهو مقتنع أنه على حق، لكن الله أخرج لنا من الناصرة القديسة مريم العذراء والقديس يوسف النجار. بل أخرج لنا السيد المسيح الذي تربى في الناصرة ونشكر الرب أن فيلبس عندما تقابل مع نثنائيل قال له تَعَالَ وَانْظُرْ فأطاع نثنائيل. فأتى ونظر وأمن بالسيد المسيح. لكن لو كان نثنائيل أعتد برأيه ورفض دعوة فيلبس له لما كان استمتع بنعمة السيد المسيح. وهذا ما حدث مع آخرين حينما قالوا ألعل المسيح من الجليل يأتي!، أو كما قال الفريسيون لنيقوديموس ألعلك أنت أيضا من الجليل! فتش وانظر أنه لم يكن نبي من الجليل. فقادتهم دينونتهم للنصرة، والجليل إلى رفض السيد المسيح الذي من ناصرة الجليل.
المتواضع لا يُدين أحد فالذي يعرف نفسه ويعرف ضعفه لا يدين الآخرين.
كيف أميز إذا كان كلامي إدانة أم لا؟
إذا كنت تشعر بانفعال (بُغضة) ففي هذه الحالة يُفضل عدم الكلام حتى إذا كان كلامك للنُصح.
هل معنى لا تدينوا لكي لا تدانوا أن نرى الخطأ ونسكت وتتكرر الأخطاء؟
إذا كنت متحقق من نفسك أن الخطية التي تريد معالجتها، ومتأكد أن الرب حررك منها، تكلم عنها بشرط ألا يكون كلامك فيه أي انفعال أو مشاعر رديئة. ففي هذه الحالة تعطي النصيحة للشخص المُخطئ على انفراد وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ (متى 18: 15).
بمعنى أن العتاب يكون بعيداً عن الناس، ويكون باتضاع، ولا يكون بانتهار، ولا بصوت عالي، لكي لا يشعر أنك متعالي عليه، أو يشعر بالنقص، كلمه والدموع في عينيك كما قال مار اسحق السرياني. فأنت تنصحه ولكن اجعله يشعر بأنك تحبه وتشفق عليه، ولا يوجد في قلبك أي مشاعر رديئة نحوه، أما إذا كنت غير قادر على ذلك يُفضل أن تكون في حالك وقل لنفسك من أنا لكي أنصح غيري!
علينا أن ننصح أنفسنا أولاً (الذي في بيت ميت لا يذهب ويبكي على ميت غيره- القديس موسي الأسود)، والمقصود بالميت هو نفسك الميتة بالخطية بمعنى هل تُصلح غيرك وتترك نفسك؟
الفضول والادانة
يوجد سبباً آخر يجعلنا نُدين الآخرين. ألا وهو الفضول: الفضول يُعني أن الإنسان يتدخل فيما لا يُعنيه. فمثلاً شخص يسأل صديقه قائلاً: ماذا تفعل؟ فيرد عليه بأنه يعمل كذا وكذا، ويعاود سؤاله قائلا: هل يُعقل أن تفعل هذا!
فالفضول يقودك إلى الإدانة، وينتهي بالنميمة. والنميمة أن نُشرك الآخرين معنا في الخطية، فعلينا ألا نسأل ولا نسمع ما لا يعنينا.
أقوال الاباء عن الإدانة:
أفضل من صوم البطن ألا تأكل لحم إنسان ولا تشرب دمه بالوقيعة (أنبا مترا)
لا تقل إني صائم بالماء والملح، وأنت تأكل لحوم الناس بالمذمة والادانة (القديس يوحنا ذهبي الفم)
النَّمَّامُ يُفَرِّقُ الأَصْدِقَاءَ. (أمثال16: 28)
مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. (لوقا 19: 22)
مَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ (يا غبي)، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. (متى22:5)
كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ (لا عمل لها) يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ أَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ. (متى12: 36، 37)
أسباب الإدانة
1- الكبرياء والغرور:
– لأن الإنسان المتكبر والمغرور يشعر بأنه لا يخطئ مثل الآخرين، ويشعر أنه الأفضل روحياً وعلمياً، أما المتواضع فهو يرى نفسه أكثر خطية من كل الناس إن الذي يلوم ذاته لا غيره، فإنه يجد رحمة أمام الله يوم الدين (أحد القديسين)
2- عدم الحكمة:
– الإدانة تدل على عدم حكمة الإنسان، لأنها حُكم ظاهري، فالإنسان لا يعرف النيات. ولذلك حذر السيد المسيح من الحكم حسب الظاهر (يوحنا 7: 24) لأنه حكم خاطئ غالباً، فالشخص أقدر على إدانة ذاته لأنه يعرف كل عيوبه ،وزلاته، ويندم عليها ويبكي طالباً رحمة الله، كما يبكي أيضا على باقي الخطاة ليرحمهم الله بدلاً من الموقف السلبي بإدانتهم. احكم يا اخي على نفسك قبل أن يحكموا عليك (القديس مكاريوس)
3- عدم المحبة أو الرحمة:
– القلب الخالي من المحبة والرحمة كالترعة الخالية من المياه تظهر كل القاذورات. الإنسان السوي والمحب يكون إيجابي في سلوكه نحو الآخرين فلا يدين أحد لأن قلبه ملئ بالحب.
……………………………………………………………………………
الكاتب: كاهن كنيسة مارجرجس المطرية القاهرة