د. ناجح إبراهيم يكتب: الخيانة

كتب د. ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان”الخيانة ” وتم نشره في جريدة المصري اليوم وهذا هو نص المقال:
• كان غلاماً صغيراً في الصف الأول الثانوي استقدمته للعمل في عيادتي, بدأ يسرق من درج الممرضة منذ اليوم الأول لعمله, كان أجر الكشف وقتها عشرة جنيهات ودخل العيادة قليلاً وهذا يعني أن السرقة ستظهر بسهولة, كنت متأكداً من عفة الممرضة الحزينة فأقول لها : هوني عليك, الأمر بسيط .
• بعد أيام جاءني الدليل علي سرقته دون أن أبحث عنه وهكذا كان يحدث دائماً معي, فأردد لمن معي: أنني لا أنقب وراء أحد ولكن من يخونني يرسل الله دليل خيانته إليَّ وأنا جالس في غرفتي, ناديته وقلت له: أنت سرقت كذا وسبحان الله هذا يوازي أجرك, وقد آخذته بالحرام وكنت سأعطيك إياه بالحلال, لولا أنك تعجلته.
• هذه القصة تقفز إلي ذهني كلما سمعت أو رأيت قصص الخيانة المالية المتتابعة وأقول لنفسي: كيف أتت الجرأة لمثل هذا الغلام أن يسرق من أول يوم, في حين أن الإنسان العادي يهاب العمل الجديد, والغريب أن الذي توسط له في العمل حاول إقناع والده أن يهتم بأخلاقه فرفض الأب تصديق ذلك وفوت فرصة تهذيبه وتعليمه.
• وهناك دكتور صديقي لم يكن لديه ضبط لعيادته فظلت الممرضة تسرقه سنوات وفي أول يوم وضع فيه نظاماً محكماً للمحاسبة اكتشف جزءً من سرقاتها وبمنتهي الجرأة رفضت أتباع النظام الذي وضعه وتركت العمل وكان يستحي من طردها رغم يقينه بأنها كانت تأخذ ربع دخله فلما حاولت العودة بعد حين أبى عودتها قائلاً لمن حوله : إنني لا أقطع لقمة عيش أحد حتى الخائن أصبر عليه حتى يعطيني مفتاح طرده, وقد أدي تركها للعمل عدم تمكنها من سداد كل الجمعيات التي كانت تشترك فيها من دخل الطبيب الطيب.
• وكان هناك شاب يعمل في متجر للأجهزة المنزلية يمتلكه صديقي ومحاسب المتجر داعية طيب استطاع الشاب طوال سنوات تزوير أوراق وسرقة أجهزة قاربت علي المليون جنيهاً ويبعها بثمن بخس لتجار يعلمون أنه يسرقها ولم يكتشف أمره إلا بعد سنوات لأن المحاسب كان يحسن الظن بالجميع.
• وهذا رجل كبير يعمل عند قريب لي ظل يسرقه لسنوات وقد جربته في أمر بسيط فسرقني فحذرته منه كما حذره آخرون ولكنه كان يعتبره كوالده ويعطف عليه, وفي آخر مرة ضبطه يسرق بضاعته فقال له : تفعل هذا رغم إكرامي لك قال: فعلت وسأفعل وأوسع ما في خيلك اركبه, ففوجئ الرجل بهذه الجرأة في الباطل, وطرده من العمل, وكان هذا العمل هو السلوى له في كبره.
• قصص كثيرة من قصص الخيانة من العمال في مؤسسات وأعمال صغيرة سرعان ما تكشف ولكأنك تصدم من كثرتها حتى قال البعض: ما دام العامل يستطيع السرقة دون ضبطه أو توبيخه أو محاسبته بشدة فسوف يفعل ذلك, قلت إذا كان هذا في المؤسسات الصغيرة والخاصة فكيف بالمؤسسات الكبرى التي تحوي آلاف الموظفين وملايين الأموال وآلاف البضائع, وكيف بالدول التي يستطيع الموظف الرشوة والاختلاس بطرق مبتكرة لا تظهر في الحقيقة لأن المهم عندها ضبط الأوراق الرسمية.
• وهناك في كل دولة أساتذة في تسديد الدفاتر وضبطها,وهؤلاء العباقرة يظلون يختلسون ويرتشون طوال حياتهم الوظيفية دون أن يمسهم أحد بسوء أما الذين يضبطون فهم تلاميذ المرتشين والمختلسين الذين يطلق عليهم “الخايبين” وليس الأسطوات.
• تدبرت في الأمر ملياً فأدركت صعوبة ومشقة ضبط المؤسسات الكبرى وكذلك الدول, قلت :لا يوجد في بلادنا الآن مكان للتربية علي الأمانة فلا مسجد أو دور عبادة يربي ولا مدرسة, والأب مشغول مطحون في عمله,لتدور دورة الخيانة.
• وقد جاءت الأديان بمحاسبة الإنسان دنيوياً حسب اللوائح والقوانين فإن هرب منها فهناك الخبير البصير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
• والتدين الحقيقي هو الذي يضبط القلب والجوارح والظاهر والباطن, وحركة الدنيا والآخرة, أما التدين المغشوش فهو الذي يهتم بالمظهر الديني وهو يرتكب كل الموبقات.
• أذكر أن المرحوم/ محمود العربي كان يوظف الأمناء المتدينون في مخازنه وخزائن شركته وما أكثرها,وذلك بعد أن يختبرهم.
• وحكي لي سائق أحد الضباط الكبار – أصبح بعد ذلك وزيراً للداخلية – أنه كان يتعمد ترك أوراق مالية في سيارته ليختبر السائق الجديد فإن أخذها جرياً علي عادته طرده وحبسه وأتي بغيره, وإن ردها بفطرته استبقاه.
• لقد خلصت من حياتي أن الإنسان إذا سلم من الدماء الحرام, والأعراض”الأبضاع”الحرام, والأموال الحرام سلمت حياته, وقد كانت أجيال آبائنا تتحرز من المال الحرام وتخافه, أما الأجيال القادمة والشابة فلا تجد من يربيها علي الأمانة.
• وقد وردت كلمة “ولا يسرقن” كثيراً في القرآن وفي حجة الوداع اختتم الرسول “صلي الله عليه وسلم” وهو يودع الدنيا بهذه الوصية “إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم” ثم أكد الحرمة ثلاثاً “كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا”, يا نبي الله أدرك أمتك فقد فشا فيها الدم والمال والعرض الحرام.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى