د. ناجح إبراهيم يكتب: صدّام من الكابوس إلي الحلم
كتب د/ ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان “صدام من الكابوس إلي الحلم” وتم نشره في جريدة الوطن وهذا هو نص المقال:
• نزح من الصعيد للعمل في الإسكندرية, تعود علي الكفاح منذ نعومة أظفاره, لا يملك ترف التكاسل والغفلة عن لقمة العيش, سماه والده صدام حباً في الرئيس العراقي الأسبق الذي وقف إلي جوار ملايين المصريين وكان سبباً في عملهم وغناهم.
• بدأ مثل غيره في وكالة الخضر والفاكهة, أخذ ينتقل من عمل لآخر حتى استقر به المقام في المعمار, توقفت المهنة بفروعها فلم يجد أمامه سوى السباكة, تزوج ومكث بعد الزواج عشر سنوات لم يرزق بذرية, طرق أبواب الأطباء, أنفق أموالاً طائلة, لم يجد بداً من الحقن المجهري في نهاية المطاف, وما أدراك ما نفقاته.
• انتظر مع زوجته ما بين خوف ورجاء وشوق لطفل يملاً البيت, تذكرا بكاء وحزن وألم ونصب عشر سنوات مرت كأنها الدهر وهما ينتظران الطفل فإذا بدماء الحيض تبدد حلمهم, لينتظروا الحلم في المرة القادمة دون جدوى.
• بعد الحقن المجهري بفترة ذهبوا للاطمئنان فإذا به يبشرهم بمفاجأة من العيار الثقيل “حامل في ثلاثة توائم” , وكأن الله أراد أن يعوضهم عن سنوات الحرمان.
• بدأ الحلم يتحقق وبدأت غيوم دنياهم تتبدد ولكن الدنيا إذا “حلت أوحلت” كما يقولون, فقد سقط من الدور الرابع وهو يصلح مواسير الصرف, كان معلقاً علي سقالة بدائية بين السماء والأرض انقطعت حبالها فسقط في شارع جانبي سارع شقيقه لإنقاذه, سقط في يوم عصيب ممطر في شارع ضيق علي طوب وحجارة ومياه مجاري, تهمشت عظام ساقيه, لم يستطع الصراخ, ولكن شقيقه استصرخ الناس, جاء الأهالي وبكت النسوة وصرخن, جاءت الإسعاف حملته للمستشفي الميري بالإسكندرية, دخل قسم الطوارئ, وجد إهمالاً لا حدود له, لم يهتم به أحد, فهو فقير وغريب, والمستشفي تستقبل كل لحظة حالات أخطر, جزار قطعت أصابعه, حوادث سيارات فيها كسور بشعة مكث في الطوارئ دون اهتمام سوى سؤال أمين الشرطة المتكرر عن سيناريو الحادث, شعر بالموت يحاصره, ترى هل تبدد الحلم بعد أن اقترب فجره, يعزي نفسه: لومت وعاش أولادي الثلاثة فلا بأس, ثم يعاود الحزن لأنه لا يستطيع الحركة والكسب, أخيراً بدأوا إجراء الأشعات, الحمد لله هي كسور فقط في العظام, حولوه إلي مستشفي ناريمان للعظام وجدها أكثر دقة ونظاماً واهتماماً بالمريض, فحصه أطباء كثيرون, أجريت له جراحات متعددة, منع من الحركة, أصبح لا يتحرك إلا بكرسي متحرك.
• بعدها شعر بعدم قدرة علي التبول, وبوله يمتزج بالدماء أحيانا, يشعر بغليان في مثانته, أخبره الطبيب أن لديه حصوة كبيرة في المثانة, تطوع أحد صناع المعروف بأجر جراح المسالك, تنفس الصعداء فقد كانت الحصوة هماً ثقيلاً.
• اقترب موعد الولادة وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئاً فهو يسير علي عكاز ولا يعمل,ولادة ثلاثة توائم مخاطرة كبرى, كل المستشفيات الخاصة تحتاج من 10 إلي 12 ألف جنيه للولادة ومثلها لحضانات الأطفال لأنها ستلد قبل الموعد.
• اقتربت لحظات الولادة المبكرة ركبه الهم وشعر وكأنه يسقط من شاهق مرة أخري, انتظر أولاده الثلاثة شهوراً, كانوا الحلم الجميل الذي بدد ظلمة تكسير عظامه, تطوع أهل الخير مرة أخرى لمساعدته في الولادة, كل مستشفي حكومي تذهب إليها تخشي من ولادتها حتى استقر في أقوى مستشفي مجاني للولادة وهي الشاطبي الجامعي بالإسكندرية, قالوا له : لن تلد عندنا إلا إذا أحضرت أوراقاً بقبولهم في حضانات إحدي المستشفيات, إنها أزمة مصر المستعصية, وجود حضانة مجانية حكومية لطفل مبتسر فقير, كل الحضانات مشغولة, حتى حضانات الشاطبي الجامعي ممتلئة.
• كان عاملاً بسيطاً نزح من الصعيد للإسكندرية هو وشقيقه, تزوج وظل عشر سنوات لا ينجب , ذهب إلي كل الأطباء أنفق أموالاً , كثيرة اضطر وزوجته للجوء للحقن المجهري , جمع كل ما يملك , اقترض , عاونه الكثيرون , أخيراً تحقق الحلم حملت زوجته في ثلاثة توائم , فرحة غارمة احتاجت الأسرة .
• أخيراً كاد الحلم أن يتحقق , في غمرة الفرحة جاء الحزن الأكبر سقط من سقالته المعلقة في الدور الرابع , تهشمت عظامه أصبح بين الحياة والموت , شعر لحظة السقوط أنه يودع الحياة , ظل قرابة 6 أشهر بين جراحات ومستشفيات عاد يمشي علي عكاز , لم يستطيع معاودة العمل في المعمار.
• حان وقت الولادة , كل المستشفيات العامة تخاف من ولادتها , ثلاثة توائم , احتمال تسمم حمل , لابد من وجود ثلاث حضانات جاهزة .
• أخيراً استقر بها المقام في مستشفي الشاطبي الجامعي التي اشترطت موافقة حضانات خارجية لاستقبال التوائم قبل ولادتهم لأن حضاناتها مشغولة .
• عاد الخوف يرفرف عليهم , صدام وشقيقه لا يعرفان أحداً ولا شيئاً في الإسكندرية وخاصة في المجال الطبي , دلهم أهل الخير علي حضانات الجمعية الشرعية بالسيوف والعجمي وهذه من أعظم حسناتها , وجدوها مشغولة , دفعوا مبلغاً لحضانات خاصة وأحضروا ورقة قبول التوائم الثلاثة .
• ولدت الأم بسلام وخرج التوائم الثلاثة سالمين , أخيراً تحقق الحلم بعد أكثر من عشر سنوات,فرحة غامرة , روح جديدة , أخذوا التوائم إلي مكان الحضانات فحصهم الطبيب المختص , كانت المفاجأة الكبرى أنهم بخير ولا يحتاجون لحضانة , هلل الزوج وأسرته , بكى من الفرحة وكأنه اختزن شلال دموعه سنوات , أخذ الأطفال الثلاثة للمنزل واشتري لهم اللبن الخاص بهم , تذكر مشكلة جديدة وهي توفير اللبن الغالي , ولكن فرحته أنسته كل العقبات,قال لنفسه : هذه عقبة يسيرة وستخرج الأم قريباً من المستشفي .
• شكر الأطباء وطاقم التمريض , هكذا المستشفيات الجامعية أنقذنهم مرتين مرة في مستشفي ناريمان للعظام , وأخري في الشاطبي للولادة .
• لولا المستشفيات الجامعية في مصر لانخفض مستوي الطب أو أنهار, ولولاها ما استطاع الفقير إجراء الجراحات الكبرى , المستشفيات الجامعية تحتاج إلي الدعم الشعبي والمالي أكثر بكثير من معظم المستشفيات التي يعلن عنها في شهر رمضان لأنها تستقبل 96 % من الحالات وهذه المستشفيات الخيرية تستقبل فقط 4 % من الحالات,ولكل دوره , ولابد أن تكون نسب توزيع التبرعات تتسق مع نسب الحالات والإشغالات .
• تطوير المستشفيات الجامعية أوجب الواجبات الآن لمعالجة كل شرائح المرضى الفقراء وخاصة بعد خروج بعض مستشفيات وزارة الصحة المركزية والعامة من خريطة الحالات الدقيقة .
• ما أعظم نعم الله , أخيراً ودعنا العقم , ومنحنا الله وسام الأمومة والأبوة , أصبح البيت دافئاً بالمشاعر , كان يوقن بالموت وهو يسقط علي الأرض , ولكن الله كتب التئام جروح عظامه ونفسه وجبر كسرهم وامتلأ بيته بما تقر به عينه .
• لولا التكافل الاجتماعي المصري القوي ما استطاع أمثاله عبور الأزمات , لولا إحسان الأغنياء في مصر ما عاش ملايين الفقراء , أهل الإحسان كثر في مصر ومن كل الشرائح والوظائف والأديان , كل بطريقته وحسب طاقته , لم أجد غنياً في مصر إلا وله دور اجتماعي وإنساني كل بطريقته وحسب طاقته .
• إذا انقطعت الأسباب عن العبد وصله رب الأسباب وسخر له من يصله , سلام علي الصابرين الراضين , سلام علي المحسنين.