عاطف عبد الغنى يكتب: قتلوا أبنائهم وجلسوا يبكون على جثثهم

بيان

لو معك 140 ألف جنيه، ماذا تفعل بها؟!.. اقتل بها أبنى.
فى ساعة متأخرة من الليل فى ميدان صغير فوق أحد أنفاق العاصمة الفرنسية باريس، (يطلق عليه بورتو ألما)، هذا المكان الذى كان يرتاده، أهل المدينة وزوارها بكثرة قبل 26 عاما تقريبا، ليشهدوا مسرح الجريمة، أو الحادث المأساوى للسيارة التى كانت تستقلها الأميرة ديانا الزوجة الأولى للأمير تشارلز (ملك إنجلترا الحالى) هى وصديقها ذى الأصول المصرية دودى الفايد، واصطدمت السيارة وهى على سرعة كبيرة، بأحد أعمدة النفق، عندما كان سائقها يحاول الهرب من سيارة المصورين المتطفلين “البابارتز” التى تلاحق العاشقين، اللذين لقيا حتفهما على أثر الحادث، فاهتزت مشاعر البشر حزنا، فى أركان الدنيا الأربعة تعاطفا مع الأميرة الجميلة، التى تمردت قبله على سجنها الملكى لتنعم بحريتها.
قريبا من وقفتنا أنا وصديقى (فى ميدان صغير أعلى النفق) كان هناك رجل خمسينى يرتدى الجلباب المغربى التقليدى، بصحبة شاب ملامحه مصرية، هكذا أدركته، ودفعنى الفضول المهنى أن أدعو صديقى للاقتراب منهما، وصدق حدثى، الشاب مصرى، ماذا تفعل هنا فى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟.. سألته بعد أن تعرفت به وصديقه المغربى، وعرفته بنفسى، وما أن عرف أننى صحفى حتى اندفع يحكى مأساته فى باريس التى ارتادها قبل ما يزيد على العامين، وباع له أهله كل ما يملكون تقريبا ليوفروا له المبلغ المطلوب لسمسار السفر، ليستخرج له وثائق السفر، والتأشيرة التى كسرها بالطبع، إلى أخر ما هو معروف، فى مثل هذه الحالات.

وعلى ما أتذكر قال الشاب إن المبلغ يزيد على 30 ألف جنيه (كم تساوى الآن)، وهو فى باريس لايجد عملا، ولم يستطع أن يجمع أى أموال، ويهرب بالطبع من السلطات، ولا يستطيع العودة إلى مصر. ماذا سيقول لأهله، وأكد أنه حتى يخجل من الاتصال بهم ؟!.
الشاب كان واحدا من العشرات الذين قابلتهم، ورددوا تقريبا نفس الكلام، وحُمّلت منهم رسالة نصح ورجاء لأبناء الوطن وشبابه، ألا يكرروا المأساة ويأتون إلى هذه البلاد مخدوعين بحلم الثروة التى ستهبط عليهم من السماء بمجرد أن يعبروا البحر المتوسط، إلى بلد أوروبى.
فى هذا التاريخ كنا نجرى فى صحفنا المصرية تحقيقات تتداول اسماء قرى فى المنوفية، والشرقية، والمحلة، تخصصت فى تسفير أبنائها إلى دول أوروبية بعينها، وكان أبناء “ميت بدر حلاوة” التابعة للغربية، يمثلون أغلبية المصريين الذين صادفتهم باريس، ويعمل أغلبهم فى “البنتيرة” وهى أعمال “النقاشة” كما تسمى بالفرنسية، وعملهم غير أنه شاق، فهو موسمى مرتبط بفصل الصيف تقريبا، وبسبب إقامة أغلبهم غير الشرعية يخضعون لابتزاز سمسار العمل، وجشعه وهو غالبا عربى، أو من بنى جلدتهم للأسف.
ما سبق بالطبع، كان له استثناءات، تمثلت فى نجاح بعض الشباب فى جمع مدخرات (قتل نفسه فى جمعها) وأرسلها إلى أهله، أو عاد بها، وبنى بيتهم بالطوب والأسمنت بدلا من الطين، ودفع مهر لعروس، مقدرا بالليرة الإيطالى، أو الفرنك الفرنسى (قبل فرض اليورو عملة الاتحاد الأوروبى)، ويجلس الشاب من هؤلاء، فى عائلة الفتاة المرشحة للزواج، متباهيا يتحدث هو وأهله بلغة المال، ليس الجنيه المصرى، ولكن “اليورو أو الأورو” حسب نطق الدولة التى سافر إليها، فرنسا أو إيطاليا.

هذه الحالات، على قلتها أصابت الفقراء، ومتوسطى الحال فى هذه القرى، بما يشبه الهوس، ودفعت الأهالى للتضحية ببيع الجاموسة التى تملكها الأسرة، أو المصاغ الذى تدخره لغدر الزمان، أو غيرها من المدخرات، لتدفع تكلفة سفر الأبن فى رحلة، فرصة النجاة فيها تساوى الموت، أملا فى الثروة، أو بحثا عن الإنصاف فى حظوظ الدنيا، أو اللجؤ لفرصة بديلة للحصول على المال، و “القب على وش الدنيا”.

وفى حادث المركب الذى انقلب بركابه من الشباب وبينهم أعداد كبيرة من المصريين، والأطفال، قبالة السواحل اليونانية، المأساة حديثة، لكن الحكايات قديمة، وتكاد تكون مكررة بالكربون. الشكوى والنحيب والبكاء ونفس الكلام والعبارات تقريبا، التى نشرناها قبل أكثر من ربع قرن فى جرائدنا ومجالاتنا.

فى تقرير لموقع “بى بى سى” العربى منشور بتاريخ اليوم 18 يونيو 2023 أب يشتكى أنه “اضُطر لبيع ممتلكاته لتدبير مبلغ 140 ألف جنيه مصري، أي ما يوازي 4500 دولار، وهو ثمن تذكرة ابنه على المركب المنكوب المتجه إلى إيطاليا، بعدما سافر ابنه إلى ليبيا من دون معرفته”.

دفع الأب 140 ألف جنيه وقال لابنه اذهب واقتل نفسك .

وماذا يلجأ الناس إلى هذا؟! أكاد أسمع صوت يسأل.. والناس تعانى أزمة غلاء المعيشة، والوطن فى أزمة اقتصادية !!.

.. أبى رحمة الله عليه كان يقول: “ليس هناك فقر، ولكن قلة عقل وتدبير”.

ماذا لو دفع الأب مبلغ الـ 140 ألف جنيه مقدم لسيارة يعمل عليها الابن “أوبر” مثلا ؟!، فيكسب ويسدد أقساطها، مثلما يفعل كثير من الشباب الآن؟!.

ماذا لو استأجر الأب وابنه بجزء من المبلغ دكانا، لتجارة الخضار والفاكهة، وبالباقى اشترى بضاعة ملأ بها الدكان، ووقف هو وابنه فيه؟!.

ولو كان فلاحا، لماذا لم يتاجر بالمبلغ فى المواشى، أو الغنم، بالتأكيد كان سيربح مع دخول عيد اللحم وارتفاع الأسعار.

لكنها قلة التدبير، والطمع الذى تجاوز الطموح، وضيف على ما سبق تقصير الحكومة، التى لا أبرأ ساحتها فهى بالتأكيد تتحمل جزء ليس قليل من الذنب، لكن الذنب الأكبر عند الناس، الذين دفعوا أبنائهم للموت وجلسوا يبكون على جثثهم.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى