رفعت رشاد يكتب: العقاب والعدالة

 بيان

فى هذا المقال يطرح الكاتب الكبير رفعت رشاد ، سؤالا يبدو من أول وهلة وكأنه سؤالا فلسفيا ، لكن فى الحقيقة يستدرج قارئه لمناقشة مسألة واقعية جدا، هى “جوهر العدل، والعدالة” أو كما عنون الكاتب مقاله: “العقاب والعدالة” وفى الإجابة عن السؤال يورد الكاتب حالة تعكس المسألة، وتوضح “القضية”. المقال منشور فى صحيفة “الوطن” وهذا نصه:

اشتهر الفيلسوف الإغريقى القديم سقراط بأنه مولّد للأفكار، كانت والدته مولدة للنساء وكان يقول عن نفسه أنه مولّد ابن مولدة.

وخلال محاكمته التى انتهت بالحكم بإعدامه بتجرُّعه السم، سأل سقراط قاضيه، وكان من السوفسطائيين الراسخين فى الجدل: ما الأفضل للإنسان، أن نرد له حقه بعد أن يُهدر؟ أم أن نمنع إهدار حقه من الأساس؟ فلو أن شخصاً أُدين خطأ بجريمة ما وقرر القاضى سجنه ثم ثبتت براءته وخرج من السجن، فهل هذا هو العدل؟ أم أن العدل كان إثبات براءته من البداية وعدم سجنه؟.

مناسبة طرح السؤال خبر نُشر بالصحف عن مواطن إنجليزى حُكم عليه بالخطأ بأن يقضى بالسجن فترة عقوبة مدتها 17 عاماً أى حوالى 6210 أيام أى حوالى 149 ألفاً و40 ساعة، بسبب جريمة لم يرتكبها، متهَماً بالاعتداء على امرأة فى مدينة مانشستر بإنجلترا.

لم يتمكن الرجل من إثبات براءته، ونظراً لحسن سلوكه تقرر الإفراج عنه بعد أن أمضى سبع سنوات بالسجن.

رفض الرجل أن يكون خروجه من السجن بسبب حسن سلوكه وبقى فى السجن محاولاً إثبات براءته، واستطاع بالفعل بعد أن أمضى 10 سنوات أخرى أن يُثبت براءته من التهمة التى سُجن بسببها خرج الرجل من السجن فاقداً كل شىء ويعيش على الإعانات الحكومية.

الطريف أن إدارة السجن تطالبه بسداد مبالغ قيمة السنوات العشر الإضافية التى أمضاها باحثاً عن براءته.

وسوف يواصل المواطن الإنجليزى نضاله ضد الحكومة وإدارة السجون التى تطالبه بتكاليف إقامته فى السجن!! ورفع دعوى ضد الحكومة للحصول على تعويض قيمته مليون جنيه إسترلينى بسبب خطأ الحكم بسجنه.

الخبر المنشور يتضمن، رغم صغر مساحته أو عدد سطوره، عبراً عديدة ترتبط بنظرة المجتمع للعقاب وقدرة أو عدم قدرة القضاء – وهو هنا القضاء الإنجليزى الراسخ فى القدم والخبرة – على تحقيق العدل.

المؤكد أن ثقة الناس اهتزت فى القضاء ومنظومة العدالة التى لم تقدر على إثبات الحقيقة فى قضية ليست خطيرة بدرجة كبيرة، فهى ليست قضية قتل غامضة أو قضية إرهاب كبيرة.

ويستمر التساؤل: كم سجيناً مثل هذا الشخص يقضى عقوبة لا يستحقها بين جدران سميكة وحراس غلاظ شداد لا يعرفون الرحمة؟.

كان الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو أصدر كتاباً فى فترة سبعينات القرن الماضى بعنوان: «المجتمع والعقاب»، وهذا الكتاب وغيره مما أصدره الفيلسوف جعلته يوصف بأنه المفكر الأكثر تأثيراً ومرجعية فى مجال العلوم الإنسانية.

يقول «فوكو» فى كتابه إن المجتمعات تفخر بتلك السجون التى تشبه القلاع التى كانت تبنيها دول القرن التاسع عشر على مشارف المدن وأحياناً داخلها واعتبرتها هدية منها لمواطنيها باعتبارها بديلاً لطيفاً للمقصلة التى اشتهرت خلال سنوات الثورة الفرنسية، فالسجون بهذه الصورة فى نظر من بنوها عقاب للروح حتى تتهذب وليست عقاباً للجسد الذى كان يمكن للمقصلة أن تقضى عليه للأبد.

وهل المدة التى أمضاها المواطن الإنجليزى فى سجنه كانت للتربية والإصلاح أم أنها حطمته؟

أمضى المواطن الإنجليزى فترة عقوبة طويلة قضت على حياته ولم يعد له مستقبل وصار يعيش على الإعانات وانتفت عنده فكرة العدالة والثقة فى نظامه القضائى.

ونعود إلى سؤال سقراط بصيغة أخرى: هل يتحقق العدل إذا رُد الحق إلى صاحبه، أم إذا مُنع إهدار الحق من الأساس؟

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى