رفعت رشاد يكتب: سيد.. درويش النغم والطرب
قبسا من سيرة عبقرى الموسيقى سيد درويش، يتحفنا به الكاتب الكبير رفعت رشاد فى هذا المقال، المقال منشور فى صحيفة “الوطن” وهذا نصه:
لا نملك تاريخاً موسيقياً عريقاً مبدعاً وليس لدينا موسيقيون مبدعون نباهى بهم الأمم، لذلك سيد درويش هو درة موسيقانا الشرقية فى مصر.
وفى 15 سبتمبر الحالى يكون قد مضى على وفاته مائة عام. قرن كامل على فراق الموسيقى الطليعى الذى أرسى شكل الموسيقى فى مصر فى زمنها المعاصر.
فى أوروبا عشرات من الموسيقيين المبدعين لا نقدر على إحصاء أسمائهم، بيتهوفن، فاجنر، موتسارت، شوبان، شوبرت، تشايكوفسكى، ريمسكى كورساكوف، هاندل.. وغيرهم عشرات ممن رسخوا عالم الموسيقى الأوروبى منذ عصر النهضة وحتى الآن.
صنعوا الأوبرات وأبدعوا السيمفونيات والمقطوعات البديعة، وللأسف حُرمنا فى بلادنا من مثل تلك الموسيقى واكتفينا بالموشحات الأندلسية والطقاطيق ولم نتطور بشكل لافت إلا بعدما ظهر سلامة حجازى وكامل الخلعى وداود حسنى.
تعتبر الموسيقى العربية التى نعزفها ونستمع إليها جزء من الموسيقى الشرقية الأوسع فى رقعتها ومفهومها ومنها الموسيقى التركية والفارسية وليس لدينا موسيقى عربية صافية نقية، ولما ظهر سيد درويش التحفنا بالأمل أن يستمر فى تطوير موسيقانا لكى نبلور موسيقى تميزنا عن بقية أنواع الموسيقى الشرقية، لكن سيد درويش لم يعش سوى 31 عاماً، ولد فى عام 1892 ومات فى عام 1923 وخلال تلك الفترة المبتورة كانت حياته الفقيرة معنوياً ومادياً.
ولد سيد درويش بالإسكندرية وذهب إلى الكُتاب لكى يحفظ القرآن، حيث كانت والدته التى كفلته بعد وفاة أبيه تتمنى أن يصبح مقرئاً للقرآن، وبعد مرحلة الكُتاب التحق بالمعهد الدينى، وكانت فرحتها عارمة عندما رأته بالزى الأزهرى.
خلال دراسته بالمعهد الدينى لم ينس هوايته الأولى عندما كان طفلاً متميزاً فى حفظ الأناشيد وترديد بعض مقاطع من أغنيات المطربين المشاهير وقتها، ومنهم الشيخ سلامة حجازى.
بعد صراع داخلى بين الموسيقى والدراسة فى المعهد الدينى ترك درويش المعهد وتفرغ للموسيقى، لكنه لم يتجه لدراستها فى معهد من المعاهد، واكتفى باكتساب معرفته من الكتب والممارسة وشغفه بالاستماع للمطربين.
استطاع تأليف الموسيقى فى سن صغيرة لكنه كان يخفى ذلك حتى لا يتهم بالاحتيال، فكان ينسب ما يؤلفه للكبار فيجد استحساناً من الجمهور.
عمل سيد مع عمال المعمار فكان يغنى أثناء العمل فتفاعل معه زملاؤه فزادت إنتاجيتهم وتفرغ سيد للغناء، وخلال وجوده على قهوة العمال استمع إليه اثنان من الشوام يملكان فرقة فنية فعرضا عليه السفر معهما للعمل وسافر بالفعل ورغم عدم توفيقه من الناحية المالية إلا أنه تواصل مع الفنان الشامى الكبير عثمان الموصلى وتعلم عليه الكثير.
لم تكن حياة سيد درويش سهلة لكنه لم يتذمر فهو ابن بلد وشعبى ويدرك أن حياته لن تكون صعبة إذا رضى بالعيشة فى بيئته الأولى.
وسمع عن سيد درويش الشيخ سلامة حجازى فشجعه على السفر إلى القاهرة وهناك قدمه للجمهور لكنهم لم يستسيغوا غناءه فأُحبط درويش وعاد إلى الإسكندرية، لكن دعاه جورج أبيض لتأليف موسيقى لمسرحية كوميدية فلبى الدعوة واستقر فى القاهرة ونجح نجاحاً كبيراً وسمع عنه نجيب الريحانى فتعاقد معه، وكذلك فعل على الكسار فكانت أعمال سيد درويش تعرض فى أربعة مسارح فى نفس الوقت، ورغم ذلك كان يعانى من شظف العيش.
عاش درويش فى القاهرة 6 سنوات فقط من 1917 إلى 1923 أبدع خلالها كل ما نستمتع به من موسيقى وكان أول من ألف الأوبريت وقدم 22 أوبريت وألف 10 أدوار للتخت وهى بمثابة سيمفونيات عربية، كما شرع فى تأليف أول أوبرا مصرية بعنوان كليوباترا ومارك أنطونيو، ولكنها لم تكتمل، كما ألف ما يقرب من خمسين طقطوقة.
لحن درويش الأغانى الشعبية والوطنية ورغم افتتاح معهد الموسيقى العربية فى عهد الملك فؤاد إلا أنه تم منع التعامل مع موسيقى سيد درويش حتى قررت الدولة إطلاق اسمه على مسرح محمد على.
كان درويش لمحة عبقرية مرت بنا وحققت بطريقة لا يمكن تفسيرها وفى ومضة خطفت أبصارنا وأسماعنا أجمل الألحان ومنحتنا مشاعر الأمل وأوحت إلينا بمعارف سماوية لا يدركها العقل وزودنا بموسيقى بلغت بنا سمواً نفسياً وروحياً ما لم نبلغه من قبل.رحم الله سيد درويش الذى ما زال يمتعنا بموسيقاه.