تاريخ أغفله التاريخ: رجل غيّر مجرى التاريخ

أحمد أبو بيبرس

سردية يكتبها: أحمد أبوبيبرس

معظم مقالاتى التى أكتبها عن حروب مصر المعاصرة أحاول فيها بقدر الإمكان وقدر حجم المعلومات المتاحة لى إلقاء الضوء على معارك أو وقائع غير مطروقة كثيرا بالفحص والدرس فى غمار الأحداث، خلال سير المعارك أو الملاحم.

وهذه المرة أود أن أشير إلى بطل من أبطال حرب أكتوبر 1973 المجيدة، الكبار المعروفين، بل المشاهير، كان له دور بطولى خطير وحساس لكنه مع ذلك يمر على الذاكرين والكاتبين مرور الكرام ويحتاج منا إلى إعادة التأكيد علي دوره البطولى والتاريخى مرة أخرى وإعطاءه حقه من الذكر التبجيل والتكريم.

إنه سيادة العميد يوسف عفيفيى قائد الفرقة 19 مشاة بالجيش الثالث ومحافظ السويس الأسبق لاحقاً .

هذا البطل قلما يلتفت أحد إلى الأدوار الخطيرة التى قام بها فى الأسبوع الأخير من الحرب والتى لولاها لربما تغير مجرى التاريخ للأسوأ.. كيف ذلك ؟!.

بحسب ماهو مذكور فى مذكراته التى نشرها عام 1992 وأعيد طباعتها عدة مرات فإنه بعد وقوع ثغرة الدفرسوار فى دفاعات الجيش المصرى أثناء الحرب فى 15 أكتوبر 1973 وخلال الأسبوع الأخير من الحرب ووقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر 1973 ، تيقن العميد يوسف عفيفى قائد الفرقة 19 مشاة بالجيش الثالث شرق القناة باقتراب قوات الجنرال الإسرائيلى إبراهام آدان المتقدمة نحو السويس بقصد الإستيلاء عليها بعد أن قام العدو الإسرائيلى بكسر وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر 1973 وحرك قواته بإتجاه الجنوب لتوسيع الثغرة وحصار الجيش الثالث بعد غزو السويس أولاً.

1 ـ أول ما قام به ذلك القائد البارع الجريئ الفذ هو أنه أدار فوهات مدافعه للخلف – خلف ظهر فرقته – باتجاه قوات العدو غرب القناة، وأمطر قوات آدان ولواءه المدرع بقذائف المدفعية الثقيلة مُشكلاً شبكة رهيبة من النيران فى محاولة لإعاقة تقدم قوات العدو وتكبيده أكبر خسائر ممكنة.

وأدى ذلك إلى تشتيت تركيز العدو المتقدم وتعرضه لخسائر فى معداته بلغت 11 دبابة إسرائيلية فى غرب القناة يوم 23 أكتوبر 1973 وذلك حتى قبل وصولها لمشارف مدينة السويس بين منطقة الشلوفة وحوض الدرس بشمال السويس.

وكذلك منعت نيران مدفعيته الثقيلة قوات العدو من اقتحام مركز قيادة متقدم للجيش الثالث الموجود فى المنطقة على بعد 20 كلم من القناة وأجبرته على التراجع بعيداً عن مركز القيادة وفشل العدو فى الاستيلاء على مركز القيادة وأسر أو قتل قائد الجيش الثالث الميدانى.
2 – أصدر أوامره بسرعة وفى الوقت المناسب بإفراغ المخازن والتشوينات الخاصة بالفرقة 19 مشاة من المؤن والذخيرة والعتاد الموجودة داخل رأس كوبرى الفرقة ونقل أماكنها بسرعة إلى أماكن أخرى آمنة بديلة خشية قيام الطيران الإسرائيلى بقصفها بعد كسر وقف إطلاق النار.

وقد صدق حدس البطل إذ شن طيران العدو الصهيونى سلسلة من الغارات الجوية المتتالية المسعورة على قواعد ومخازن الفرقة 19 الخالية من أى مواد ذات قيمة طوال أيام 24 و 25 و 26 أكتوبر دون أى نتيجة تذكر وذلك لسرعة بديهة العميد يوسف عفيفي وحسن تصرفه لأنه لو لم يتخذ ذلك القرار فى الوقت المناسب لتم تدمير كل مؤن وذخيرة الجيش الثالث والفرقة 19 وساء موقفه الإدارى بما لا يمكنه من الصمود لحصار طويل فى ظل عدم وجود ذخيرة لأسلحته ولا غذاء وماء كافيين للجنود البواسل من أجل الصمود ومواصلة القتال ولو لأيام قليلة بحيث كان استسلام قوات الجيش الثالث لنفاذ الطعام والوقود والذخيرة أمراً وارد جدا لا قدر الله.

3 ـ على الرغم من أن مدينة السويس موقعها فى غرب القناة ولا تقع ضمن نطاق عمل الفرقة 19 مشاة او الجيش الثالث عموما إلا أن العميد يوسف عفيفى دون انتظار أى أوامر من القيادة العامة للقوات المسلحة، وبمبادرة شخصية منه أصدر أوامره إلى قواته بعبور قناة السويس إلى الغرب والمشاركة فى تنظيم الدفاع عن المدينة استعدادا لملاقاة جيش العدو الزاحف على المدينة وصد قوات العدو ومنعه من دخول منطقة (حوض الدرس) فى المدخل الشمالى لمدينة السويس.

وخاضت قواته معارك ضارية وقد تم تطعيم عناصر الدفاع عن السويس من المشاة والأهالى بأطقم صواريخ مضادة للدبابات والقيام بحفر الخنادق ونصب الكمائن فى طرق اقتراب العدو المؤكدة وعمل أفضل دفاع ممكن عن المدينة تسبب فى صد الهجمات الإسرائيلية عن حرم المدينة وإلحاق هزيمة بالغة بالقوات المعادية فى الفترة من 24 إلى 28 أكتوبر 1973 يوم وقف إطلاق النار النهائى.

مع العلم بأنه لم يكن يوجد حول السويس أو داخلها أى قوات مدرعة مصرية ولا حتى دبابة واحدة ومعنى ذلك أن عبء تدمير الدبابات الإسرائيلية الغازية وقع بالكامل على أطقم حملة صواريخ “الأر بى جى” المصريين.

ويمكن تشبيه الموقف بما يجرى حالياً فى أحداث معارك غزة الباسلة منذ يوم 7 أكتوبر 2023 بحسب ما نرى من قيام الأطقم الفلسطينية من حملة صواريخ الياسين 105 المحمولة على الكتف بالتصدى لدبابات الميركافا الإسرائيلية وتدميرها دون أن يكون مع الفلسطنيين دبابة واحدة.

وما جرى للسويس المصرية فى حرب عام 1973 تكرر بالحرف مع غزة الفلسطينية فى حرب عام 2023 بعد خمسين عاما بالضبط من حصار خانق وقصف جوى وهجوم بالدبابات المعادية .. (فما أشبه الليلة بالبارحة كما يقولون).

4- إبان فترة الحصار الطويلة التى ضربتها القوات الإسرائيلية على مدينة السويس وموقع كبريت وباقى قوات الجيش الثالث شرق القناة لشهور وشهور، حتى تاريخ إتفاقية توقيع فض الإشباك يوم 16 يناير 1974 نجح العميد يوسف عفيفى فى الحفاظ على الكفاءة القتالية لقواته كاملة وحافظ على الروح المعنوية عالية فى عنان السماء بين الجنود والضباط وكان التلاحم بينهما أعلى وأفضل ما يكون للحد الذى جعله يكتب فى مذكراته بأن أيام الحصار كانت من أجمل الأيام التى مرت عليه وعلى رجاله فى الخدمة العسكرية.

ومن بعد نشوب الحرب فى 6 أكتوبر 1973 وفى ظل تلك الظروف القاسية التى عاشها هو ورجاله لم ينس الاهتمام بالأمور الإنسانية فى المعركة من الاهتمام بالمسائل الترفيهية للجنود وبذل الجهود للعناية بالشئون الصحية للأفراد ومكافحة الأمراض التى قد تظهر نتيجة طول وقت الحصار ودفن الشهداء بالصورة الكريمة اللائقة .

وكذلك أصدر أوامره بالإقتصاد فى الوقود والطعام والذخيرة إلى أقل ما يكون بحيث لم تتأثر قواته كثيرا بالحصار الإسرائيلى المفروض عليها شرق وغرب القناة مما أصاب إسرائيل ومن وراء إسرائيل بالحنق والجنون والإحباط بل أن الفرقة 19 تحت قيادته أضافت بضعة كيلومترات إضافية محررة جديدة شرق القناة .

إذن فقد حافظ العميد يوسف عفيفى على / الكفاءة القتالية / المؤن والوقود / الروح المعنوية والقتالية / سلامة قواته / صمودها فى الميدان.

دعونا نفترض إذن ماذا لو أن العميد يوسف عفيفى قائد الفرقة 19 مشاة لم ينقذ إمدادات الفرقة 19 فى الوقت المناسب من ضربات الطيران الإسرائيلى ما الذى كان سيحدث آنذاك …؟؟
سيتغير مجرى التاريخ ..
ولو كان تفكير العميد يوسف تفكيرا نمطيا مثل كثير من القادة الأخرين بحيث تجاهل تقوية الدفاع عن المدينة والمشاركة بقوات من الفرقة 19 مشاة فى القتال ضد العدو المتقدم بحجة أنه ليس لديه أوامر فى ذلك الشأن أو أن مدينة السويس لا تقع ضمن اختصاصه أو حدود مسئوليته العسكرية أو أنه ليس لديه عدد كاف من الوحدات الاحتياطية لإرسالها إلى القتال فى السويس.. ما الذى يمكن أن يحدث آنذاك ؟ أو المتخيل حدوثه ؟؟؟ كارثة رهيبة تفضى إلى هزيمة جديدة، أى ..كان سيتغير مجــرى التاريخ.
فى الغالب السيناريو الكارثى الأسود المتوقع فى حالة تخلى الفرقة 19 عن دعم السويس هو نجاح العدو لا قدر الله فى السيطرة على المدينة بدباباته وأسلحته الثقيلة بعد إشتباكات محدودة طالت أم قصرت مع عناصر من قوات المشاة غير المنظمة التى تنتمى إلى بقايا الوحدات الإدارية غرب القناة ومسلحة بأسلحة خفيفية.

واحتمال مؤكد قيام العدو بعمل مجزرة إنتقامية بين الأهالى المدنيين وآلاف الجنود المسلحين بالمسدسات والرشاشات فقط بعد نفاذ ذخيرتهم أو إستسلامهم كنتيجة حتمية لمعارك عشوائية غير محكمة وسقوط المدينة فى النهاية فى يد العدو.

وبالتالى اكتمال الحصار حول الجيش الثالث بعد قطع الاتصال بين الجيش الثالث ومدينة السويس وزيادة حرج موقفه وإنهيار معنوياته وضعف موقفه العسكرى.

كل ذلك وأكثرمنه كان من الممكن أن يتحقق فعلاً لو تراخت الفرقة 19 مشاة فى إرسال وحدات مدعمة بأطقم صواريخ مضادة للدبابات تقاتل إلى جانب الحامية والمدنيين فى السويس يوم 24 أكتوبر 1973.
من الملاحظ أن معركة السويس 24 أكتبر 1973 دارت وسط حرمان تام للجانب المصرى من أى دعم جوى أو برى إذ لم يتدخل الطيران المصرى فى المعركة بقصف القوات الإسرائيلية التى تقدمت على محاور القتال وأحاطت بمدينة السويس من كافة الجوانب وظلت قوات العدو تعمل بكل حرية وهى آمنة من التدخل الجوى المصرى ضدها فى ظل تفوق جوى إسرائيلى تام إنفرد بسماء المعركة.

كذلك لم يكون هناك أى وجود لقوات مدرعة مصرية ولا دبابات حول نطاق المدينة لحمايتها والتصدى لدبابات العدو والعمل على تصيدها فى مبارزات حامية بالنيران أو تقوم بنصب كمائن نيرانية محكمة وذلك بعد عبور القوات المصرية من غرب القناة إلى شرقها يوم 6 أكتوبر 1973 .

علاوة على عدم وجود أى دفاع جوى بالمنطقة ليتصدى للغارات الجوية الإسرائيلية التى استمرت على مدينة السويس ورأس كوبرى الجيش الثالث بعد نجاح قوات الجنرال شارون فى تدمير عدد من قواعد الصواريخ المضادة المصرية للطائرات مما اضطر القيادة العامة للجيش إلى سحب باقى القواعد الموجودة بالمنطقة الخلفية للجيش الثالث بعيدا عن زحف قوات الجنرال شارون والجنرال إبراهام آدان وأدى ذلك بالطبع إلى حرمان قوات الجيش الثالث ومدينة السويس من الغطاء الدفاعى الجوى عن سمائهما الذى كان يردع طائرات إسرائيل عن الاقتراب من الجبهة قبل حدوث الثغرة.
وبالنظر أيضاً إلى عدم وجود مدفعية ثقيلة أو هاونات أو راجمات صواريخ متمركزة غرب القناة أو على محاور التقدم من السويس لتقصف العدو على محاور الاقتراب والتقدم من مدينة السويس ذلك أن ظهرالجيش الثالث ليس به قوات مقاتلة كبيرة تذكر ذلك لايمنع من الإشارة إلى تلقى حامية السويس دعماً مدفعيا بقدر المستطاع والمتيسر من مدفعية الجيش الثالث شرق القناة يوم 23 أكتوبر .

معنى ذلك أن السويس قاتلت وهى عارية تماما من الغطاء الجوى وبدون دبابات ومدرعات أو مدفعية خاصة بها اللهم إلا سلاح الـ “أربى بى جى” .. وكان هو البطل الأول الذى تحمل وحده عبء التصدى لدبابات العدو أيام 24 و 25 و 27 و 28 أكتوبر 1973 ..القاذف المحمول على الأكتاف “أر بى جى” هو الذى تولى عملية تدمير دبابات إسرائيل وحماية مدينة السويس ومنعها من السقوط تحت جنازير دبابات العدو الذى حمله أبطال الفرقة 19 مشاة على أكتافهم إذ فقد العدو 22 دبابة يوم 24 أكتوبر بفضل جنود وضباط الفرقة 19 مشاة الذين أرسلهم العميد يوسف عفيفيى فى الوقت المناسب لنجدة السويس ودعم حاميتها الباسلة الصامدة.
يوسف عفيفيى بإجراءاته الحاسمة السريعة فى ميدان المعركة كان العوض للسويس عن عدم وجود طائرات ودفاع جوى ومدرعات وأثبت باقتدار أن مدينة السويس الباسلة كانت خير ظهير للجيش الثالث شرق القناة وان الجيش الثالث الصامد المتماسك كان خير معين لمدينة السويس الباسلة.
هذا الرجل هو الذى أنقذ الجيش الثالث والسويس من الإستسلام للعدو الإسرائيلى الغادر المتغطرس
هذا الرجل هو الذى أذل إسرائيل فى الثغرة وأفشل مغامرة الجنرالين الإسرائيليين إبراهام آدان ومساعده الجنرال كالمان ماجن وحرمهما من جنى ثمار أى إنتصار عسكرى من جراء كسر وقف إطلاق النار من بعد يوم 22 أكتوبر وحرمها من الإستيلاء على مدينة السويس وحرمها من النيل من قوات الجيش الثالث شرق وغرب القناة ووضع حدا لمغامرتها العسكرية الفاشلة فى غرب القناة برمتها.
هذا الرجل بالمناورات الرائعة التى نفذها تجاوز آفاق وإستيعاب القيادات العسكرية والسياسية المصرية التى تقبع بعيداً فى القاهرة .

هذا الرجل .. أنقذ شرف العسكرية المصرية وحافظ على التراب المصرى فى سيناء والسويس فى أحرج الأوقات وأحلك المواقف.

هذا الرجل .. أذل ناصية إسرائيل وحافظ على الجيش الثالث والسويس وحافظ على نصر أكتوبر من الهدر والضياع فى لحظات تاريخية حاسمة.

هذا الرجل كان فى حاجة ماسة لتسليط الضوء عليه أكثر لإبراز دوره البطولى الخارق فى حماية شرف مصر العسكرى ومن خلفه جنوده وضباطه من جيش مصر البواسل الأبطال المخلصون الأوفياء الأكفاء.

لولا وجود هذا البطل العميد يوسف عفيفيى على رأس الفرقة 19 مشاة بالجيش الثالث فى حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 .. لتغير مجرى التاريخ.
.. وهـذا الرجــل هو الــذى غــير مـجـرى التــاريــخ.

اقرأ فى هذه السلسلة:

تاريخ أغفله التاريخ: كـلام جديد عن حرب اليمن 1962.. إعادة نظر ورد للاعتبار

–  تاريخ أغفله التاريخ.. جرائم إسرائيل البشعة ضد المدنيين فى حرب أكتوبر ١٩٧٣

زر الذهاب إلى الأعلى