القس بولا فؤاد رياض يكتب: “طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون”
بيان
لا شك أن شريعة الله المقدسة بدءاً بالتوراة (أسفار موسى الخمسة) وإنتهاءاً بالإنجيل (البشارة المفرحة) تحض على نبذ التطرف الفكري والعنف الدموي أو ما يعرف بالإرهاب، وتُحرم شريعة الله المقدسة قتل النفس البشرية بدون حق.
فمن وصايا الله العشر التي سلمها لموسى النبي التي تحدد علاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان. وهذه الوصايا هي عهد بين الله والإنسان. هذا العهد قطعه معنا الله في قوة لكي نحس بقيمته. فعندما سلًّم الله هذه الوصايا للناس سلمها لهم من فوق جبل مُضطرب، وكان الجبل يرتجف، ويدخن، ويغطيه سحاب ثقيل، ويدوي صوت رعود وصوت بوق شديد (خر ١٩ : ١٦-١٩). وكان المنظر هكذا مخيفاً حتى قال موسى النبي “«أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ»” كل هذا يُرينا أن وصية الرب قوية ولازمة ولابد أن ننفذها.
وتأتي أهمية الوصايا أن الله تكلم بها بفمه (خروج ٢٠: ١)، وأن الله كتبها بنفسه على اللوحين وسلمها لموسى.
ونركز هنا ونحن نتناول الحروب وحوادث القتل منذ بدء الخليقة فقد نهى الله عن قتل النفس البشرية بوصية مُحددة- “لاَ تَقْتُلْ.” (خر 20: 13)
نجد أن شريعة الله تُحرم قتل النفس البشرية بدون حق، وتحكم على كل قاتل نفس أدمية بريئة عامداً متعمداً بالموت قائلة “سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ.”(تك ٩ : ٦) وهذا أول نص إلهي لتحصين حياة الإنسان على الأرض بعد الطوفان.
أي أعطى له العقل أو الروح العاقلة والإرادة الصالحة والحرية الكاملة المُنضبطة في الوقت نفسه. وتُلزم الشريعة أن يكون القصاص من مقترفي هذا الإثم أنفسهم لئلا تُزهق روح بريئة بغير حق كقول الرب “«لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ.”(تث ٢٤: ١٦) وتتحدث عن هلاكه الأبدي كذلك أي عما سيلقاه من عذاب في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت أي الموت الثاني.
فالمسيحية تحرم القتل وتنهي عنه:
“كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ قَاتِلِ نَفْسٍ لَيْسَ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ.”(١ يو ٣ : ١٥)
قال السيد المسيح “”«قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ ” (مت 5: 21 و22)
فالبغضة والكراهية لا تتفق مع نقاوة القلب والقداسة التي بدونها لن يرى احد الرب. فالبُغضة تقود إلى الغضب. أما المحبة فتقود إلى الوئام. لذلك جاء المسيح ليعالج الخطية من جذورها من الداخل. فالقتل هو النتيجة النهائية للغضب والسخط والمشاحنات والكراهية. علينا أن نتجنب العنف الداخلي مثل الغيظ المكتوم والحقد والرغبة في الإنتقام أو التشفي والوصية العظمى عند الله هي محبة الله من كل القلب، والوصية الثانية مثلها محبة القريب كالنفس. وقال السيد المسيح بهذا يكمل الناموس والأنبياء “مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلهًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا.وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي (رؤ ٢١ : ٧، ٨)
“طُوبَى لِلَّذِينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لِكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَةِ الْحَيَاةِ، وَيَدْخُلُوا مِنَ الأَبْوَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لأَنَّ خَارِجًا الْكِلاَبَ وَالسَّحَرَةَ وَالزُّنَاةَ وَالْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ، وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِبًا.” (رؤ ٢٢: ١٤، ١٥)
“فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!” (مت ٢٦: ٥٢)
حق الدولة في القتل
فإذا وجد شخص مُجرم، من حق الدولة أن تحكم عليه بالأعدام وتقتله، ولا تكون بفعلها هذا قد كسرت الوصية السادسة (لا تقتل). لأن الله يأمر بقتل القاتل إذ قال : “سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ ” (تك ٦:٩). وفى ذلك صرح بولس الرسول”ولكن إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ.”( رو ١٣ : ٤ )
أهمية الوصية
خطورتها أن حياة الإنسان ليست ملكه، وإنما مِلك الله، وهو الذي بيده المصائر ولا يستطيع إنسان أن يأخذ موضع الله ويتصرف في مصائر الناس.
ما أعجب الرب الإله لم ينتقم فقط لدم هابيل البار بل حتى لدم قايين الشرير القاتل فعندما قال له قايين “إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي». فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ.”(تك ٤ : ١٤، ١٥)
إن الله لا يترك الدم بدون نقمة. حتى الأبرار الذين قتلوا غيرهم إُنتقم منهم. داود النبي لم يعفه الرب من عقوبة جريمة القتل. فمنعه من بناء الهيكل. ولم يسمح له بذلك الشرف العظيم، لأن يديه تلوثتا بالدم من قبل، وقد ذكر داود هذا الأمر عندما قال: “فَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلًا: قَدْ سَفَكْتَ دَمًا كَثِيرًا وَعَمِلْتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرْضِ أَمَامِي. ( ١أى۲۲: ۸ ).
إن الله ينتقم للمقتولين. لذلك فالذين ينتقمون لقتلاهم إنما هم يتعجلون الأمور ويضعون على أنفسهم ثقلاً لا داع له. “لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ.” ( رو ۱۲ : ۱۹). فالله لا يترك دم القتيل بدون إنتقام. حتى الشهداء وعدهم الله بأنه سينتقم لدمائهم عندما يكمل إخوتهم الذين على الأرض جهادهم.
“وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟»” ( رؤ ٦ : ١٠)
الحرب والقتل
هل الحرب تدخل في نطاق الوصية السادسة التي تقول “لاَ تَقْتُلْ.”؟
نجيب على هذا بأنه إذا كان قتل الفرد أمراً ينهى عنه الله، فمن باب أولى ينهى الله عن قتل المجموعات المتعددة. وهكذا تكون الأسلحة المُدمرة المُخربة هي أسلحة ضد الوصية السادسة. إنه لمن المخجل حقاً أن يستخدم الإنسان مواهبه وعلمه وعقله وذكاءه فى التخريب وفى القتل والإيذاء، بينما أن ملايين الملايين من الجنيهات التي تُنفق على الحروب لو صُرفت في نفع البشرية لأتت بخير كثير !
وإن كانت الحرب شراً، ولا يوافق عليها الله إلا إن كانت بأمره أو بإذنه أو بإرشاده. فمن باب أولى الحرب العدوانية التي يظهر فيها جانب الإعتداء والظلم .
إن الله يسمح أن يدافع الإنسان عن نفسه. فالحرب إذا كانت دفاعاً عن النفس، أو حماية لصالح المجموعة، فإن الله يوافق عليها بالنسبة للمجموعة لحماية الأفراد، وإن كانت في حد ذاتها مكروهة عموماً عند الله الذى يريد أن تنتشر المحبة والسلام بين الناس .
أما الحرب العدوانية فتدخل ولا شك في نطاق الوصية السادسة «لا تقتل ». ولذلك فإنه بعد الحرب العالمية الثانية أقيمت محاكم دولية لمحاكمة مجرمي الحرب ». لأنهم رأوا أن بعض القادة كانوا مجرمين في حق البشرية جميعاً. لمسئوليتهم عن تلك الحرب التي تسببوا بها في قتل وتشويه وتشريد عدد كبير من الناس بدون مبرر و بدون داع وقد قال الله: “لاَ تَقْتُلْ.”
لذلك كله وضعت الدول قوانيناً للحرب للحد من خطورة قتل الأنفس فيها، وللتخفيف من الوحشية والبشاعة فى الحروب. فهناك قوانين لمنع أسلحة معينة قاتلة أو مشوهة أو مدمرة، ولا يتفق استعمالها مع روح الإنسانية، وقوانين أخرى لمنع الإعتداء على المستشفيات وعلى المدنيين والمؤسسات الإنسانية وحفظ وتنظيم ما يتعلق بأسرى الحرب غير المقاتلين. وكذلك لا تبيح الإنسانية في الحروب التعرض للأطفال والنساء ودور العبادة والمرضى والكهول كل ذلك لمجرد التخفيف من ويلات الحرب التي هي عملية قتل جماعية يتفق الجميع على الرغبة في التخلص منها .
القتل الجزئي
في هذا النطاق يدخل الإعتداء الجسدى، والضرب، والإيذاء، والتعذيب، والتشويه. فمن الجائز أن إنساناً يعتدى على آخر فيحدث به عاهة مستديمة: يفقده عينا، أو يكسر له رجلاً، أو يشوه وجهه … إلخ. كل هذا يدخل في نطاق القتل الجزئى، لأن جزءاً من الإنسان قد تم قتله فعلاً .
الامتناع عن الإغاثة
ليس القتل هو مجرد أن تقوم بنفسك بإنهاء حياة إنسان، وإنما إن تعرض إنسان للموت ولم تنقذه – حين كان بإمكانك إنقاذه ـ فأنت إذن مشترك في موته وداخل نطاق الوصية السادسة. ما أجمل قول الكتاب عندما يقول في مثل هذا المجال: “مَنْ يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنْ صُرَاخِ الْمِسْكِينِ، فَهُوَ أَيْضًا يَصْرُخُ وَلاَ يُسْتَجَابُ.”( أم ٢١ : ١٣ ). ما نقوله عن المنع، نقوله أيضاً عن منع الغذاء عمن يحتاجون إليه لحياتهم الدواء والعلاج، كذلك إن إهمال الجوعى والمرضى حتى يموتوا بجوعهم أو بمرضهم هو جريمة قتل واضحة. واهمال هؤلاء حتى تتسبب أمراض مستديمة أو خطرة هو نوع من القتل الجزئي.
.وفي ذلك يقول الكتاب: “فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ.” (يع ٤ : ١٧)
وإذ نظرنا حولنا لعلنا نجد الكثير من الحروب ومن أبرزها حرب إسرائيل على غزة ويدخل في هذا النطاق قيام سلطات الاحتلال الاسرائيلي المعتدية على قطاع غزة بمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين العزل.
ولكي نتجنب ويلات الحروب علينا بنشر ثقافة الحوار
فالحوار سبيلاً لاستئصال هذه الآفات (الإرهاب والحروب)
لذا ينبغي أن تتضافر كل جهود المجتمع الدولي بغية التصدي بحزم لهذه الافات المتفشية، وأن يعمل الشرق والغرب معاً لنشر الأمن والاستقرار، عالم تسوده المحبة والألفة والسلام، ومما لا ريب فيه أن حوار أتباع الحضارات أو ما يسمى مجازاً بحوار الحضارات يدعم هذه الجهود، إذ من شأنه بأن يعمل على التقارب بين الشعوب والتحاور والتشاور والتفاهم فيما بينها، ونبذ خطاب الكراهية (Hate speech) فخطاب الكراهية يقود العالم للمواجهة الدامية (الحروب) فهو في جوهره إعتداء على جوهر كرامة الإنسان.
يقول القديس بولس الرسول “فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.” (غل ٥ : ١٥)
إذا لابد من الحوار وليس المجابهة أو الصراع الذي كثيرا ما ينشئ انقسامات عميقة على أطروحات سياسية أو خلفيات عقائدية، طائفية، ثقافية …. إلخ.
نصلي من أجل أن يسود السلام لربوع العالم أجمع وكما ترنمت الملائكة عند ميلاد السيد المسيح المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة.
……………………………………………………………….
كاتب المقال: كاهن كنيسة مار جرجس المطرية القاهرة