محمد قدرى حلاوة يكتب: “وحوي يا وحوي” 

بيان
أشياء تتغير رويدا رويدا عندما يهل شهر “رمضان” من كل عام.. الطقس.. موعد الأفطار والسحور.. مدة الصيام.. العادات.. عاديات الزمن والملامح.. وأشياء أخرى تبدو ثابتة سرمدية لا تتغير.. الصوت المدوي ” لمدفع الإفطار… اضرب”.. صوت الشيخ رفعت.. تواشيح النقشبندي.. الزينة والأنوار.. المسحراتي.. فوانيس رمضان.. وخصوصا ذلك ” الفانوس” الصدئ ذو الباب المفتوح المعلق الذي كان يحمله “منصور”..

لم يكن ” منصور” يكبرنا سوي بنحو عام ونيف.. عمر صبي وملامح رجل.. كنا نغار من شاربه الذي لاح زغبه وأكسبه مظهرا مهيبا.. لا سيما عندما يجتمع مع جهامة ملامحه وعضلات جسده المرتسمة ولسانه الذي يقذف سبا وقذفا وحجارة مسنونة.. لم يكن أمامنا سوي أن نطيعه ونجعله قائدا للصحبة ونأتمر بأمره ونعليه زعيما علينا.. بعض الطاعة والموائمة والرضوخ ربما أكسبتنا الهيبة والمكانة والتفوق على الأقران.. “دول أصحاب منصور يا عم.. محدش يقدر يقرب لهم”.. كم ترامي إلى أذاننا ذاك الهمس الدائر من حولنا..

لا أحد يعلم من أي أرض أتى.. منذ عشرة أعوام أتت أمه تحمله.. يأويهما حجرة صغيرة أشبه بعش الطيور فوق سطح البناية العتيقة.. يتهامس البعض أنهم أتوا من أقاصي” الصعيد ” هاربين من الثأر.. ويؤكد بعضا آخر أن” سيدة ” بائعة ” الجاز” – والدته- قد فرت هاربة من قريتها خوفا من الأنتقام للشرف والعار.. ويقسم جمع ثالث أن والده قد أبتلعه البحر الغاضب وهو في سبيله نحو جنان الله في بلاد الغرب.. على أية حال فلا يعلم أحد له أبا.. وإن كان يحمل لقبا عريضا ” منصور عبد العال صميدة”..

” فانوس” ” رمضان ” في يده لا يتغير بتتابع الفصول والسنوات والأهلة.. هو ذاته ذو الباب المكسور والهيكل الصدئ والظلمة البادية خلف الزجاج المعشق.. ترف لا شك أن تضيع النقود في بضعة شموع محترقة ذائبة.. لم يحاول أن يستلب منا الشمع بلهبه الراقص..هو ذو قلب رقيق على أية حال.. لم يكن راضيا.. ولا ساخطا.. كان بين بين.. ربما دل على ذلك أنه لم يكن يشاركنا الفرحة والغناء.. كان فقط هائما في البراح.. وهو يهز ” الفانوس” في يديه.. وصوت أصطكاك بابه المعلق في الهواء يعلو وينخفض..

في لحظة ما سقط باب “الفانوس” وتهشم فجأة.. صمتنا عن اللهو والغناء. َ. انفجر ” منصور” باكيا بحرقة.. شلالا من الدمع ونشيج وعروق بادية نفرت من الجسد المنتفض.. لم تنجح محاولاتنا في علاج ” مفصلة” الباب الصغيرة ولا تلك المبذولة للملمة الزجاج المتفتت.. أسرع راكضا وقد أطاح ببقايا ” الفانوس” بعيدا ليسقط متهشما .. أنزوي عن أنظارنا وقد أنطفأت بهجتنا بغتة.. وصمت الغناء خجلا وسط رجع النحيب والعويل.

في المساء.. عاد ” منصور” في جلسته المعتادة على الرصيف يشاركنا ليالي السمر.. لكنه كان صامتا.. منحنى الهامة.. كسيرا.. يمسك في يده بعود من الخشب، يرسم على تراب الطريق دوائر ودوائر.. رفع رأسه نحونا فجأة ومضى بصوته الأجش يقول : ” أمي قالت لي الفانوس ده للعيال.. وأنت كبرت وفاتك العلام ولازم تشتغل.. هوه ميعاد السحور جه ولا لسه؟ “.. لم ينتظر الإجابة وانتصب ناهضا.. ومضى في الطريق بخطوات وئيدة متعبة.. علامات الصلابة ورباطة الجأش عادت لترتسم على وجهه.. وإن كنا قد لمحناه يلقى نظرة كسيرة نحو الهيكل المتفتت المنثور – للفانوس – بينما صوت تواشيح ساعات السحر الآتي من بعيد يخترق حاجز الصمت.. لا ينازعه الخواء سوي عواء كلب يتمطي على قوائمه.. وقد علا رأسه نحو الفضاء البعيد..

مرت أيام “رمضان” سراعا موشكة أن تسلمنا ليد “هلال” شهر جديد.. صوت عال مألوفا يصك الأذان” جااااااز “.. ودقات على صاج العربة الحديدية.. ” نهيق” حمار علا مرتفعا بعد أن عالجه الحوذي بضربة “عصا” ليمضي لحال سبيله .. لم يكن الصوت العال للمنادى أو الحوذي سوي “لمنصور” ذاته.. قفز من العربة سريعا يصب في ” القمع ” بضعة لترات من ” الجاز” “في اناء صبي “القهوة”.. لمحنا ومال برأسه مبتسما وهو يقول: “مش قلت لكم الفوانيس دي للعيال.. ناويين على أيه في العيد؟.. نتقابل بعد الفطار “.

عادت ملامح الجد تحتل قسمات وجهه وهو يمسك ” باللجام” صائحا.. ” حا.. حا… شي”.. وأخذ جسده يتأرجح مع خطوات العربة.. ومضى صوت الحوافر والنهيق يبتعد شيئا فشيئا.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى