محمد قدرى حلاوة يكتب: ” الزر المفقود “
بيان
(١)
كلما فرغت جعبة الزمن من الشغف واللهفة، وصارت الأحداث باهتة مكرورة، وحينما تخفت الرغبة في الحاضر وتخبو جذوة الأمل، عندما يتساوى الوجود والعدم ويصير الغد مثيراً للخوف والرهبة، نفزع هاربين إلى الماضي، منقبين عن بعض الذكريات العالقة بجسد الزمان الأملس المسقط للأحداث والأيام والأسماء والمُراكم لها ككومة مهملة مكدسة، تتطاير في فضاء الكون عبثاً وهباءً منثوراً، كقصاصات الورق الضائعة في عصف الهواء، كأنها لم تكن ولم نكن، وقد كانت وكنا ولا من قرينة أو إثبات.
هل مجرد كونها فعلاً ماضياً جعلها نهباً للتعدي وفريسة للنسيان؟ وهل يمكن استعادة الصوت عندما يتردد ضائعاً سدى وصدي؟
تترامى إلى البال صور بعيدة، تبدو للوهلة الأولى متباعدة باهتة، سرعان ما تتوالى متتابعة ملحة لإعادة للذاكرة مشهداً كاملاً متحركاً بشخوصه وتفاصيله وأحداثه، صور البهجة والدهشة والانطلاق في عالم رحب واسع بدا لنا حينها بلا مدى ولا نهاية.
بداية “رمضان”، “تعلن دار الإفتاء ثبوت رؤية هلال رمضان، وأن غداً هو أول أيام الشهر الفضيل”.
ثم يأتي صوت “عبد المطلب” بعدها ليشدو “رمضان جانا، وفرحنا به بعد غيابه”.
ملامح البهجة تشع في البيوت، وينطلق الأهل لشراء بعض المستلزمات و”السحور”.
نستعد لليالي معدودة من السهر والألفة، نقبض بيدينا على “الفانوس”، متأهبين للنزول لمحل “عم عباس” لنشتري نحن أيضاً أغراضنا اللازمة والتي كانت بهجة “رمضان” لا تكتمل بدونها.
يقابلنا في الطريق الفرن “الأفرنجي” وقد أخذ يهيئ فرناً حجرياً كبيراً لإعداد “الكنافة”، وآخر صغيراً “للقطايف”.
يأتي بعده مطعم “الفول” و”الفلافل” وهو يصنع بنشاط كميات أكبر من المعتاد وقد ارتصت صحائف “المخللات” تثير الشهية، بينما يشرع محل “العصير” في إعداد “التمر هندي” و”الخروب” و”العرق سوس”.
وسط أسلاك ممتدة معلقة عليها المصابيح المضيئة الملونة، وخيوطاً قد ثبت بها أوراق الزينة مرسوماً عليها هلال “رمضان” ترفرف في الهواء.
وكان “عم عباس” يقف حينها على سلم خشبي صغير يدق بمطرقته “مسماراً” مثبتاً أحد أفرع أوراق الزينة.
(٢)
كان عم “عباس” كهلاً بعض الشيء، أصلع الرأس، جاحظ العينين بطريقة ملفتة، تكللت بقايا شعر رأسه الملتفة المهوشة وأهدابه بالشيب.
أما قسماته وملامحه فقد بدت مجهدة وهي تخوض حربها الخاسرة الأخيرة مع التجاعيد مع ارتعاشة بسيطة ملحوظة بيده اليسرى.
كان سمينًا بشكل ملحوظ، حتى أن قميصه كان دائمًا ما ينقصه “زر” مفقود ولي هارباً جراء سمنته الشديدة.
اعتاد أن يرتدي صديريًا لامعًا مغطى بطبقة من قماش “الستان” صيفًا وشتاءً.
وكان “عم عباس” يملك حانوت “خردوات”، وهي كلمة لم أكن أعلم معناها حينها سوى أنه محل يبيع كل شيء وأي شيء، وكانت تلك هي الحقيقة.
الحانوت متوسط الحجم، يغطي جدرانه أدراج خشبية عتيقة بعضها قد سقطت مقابضها، تبدو الأغراض منها بارزة في حالة من الفوضى العارمة، تلك قد امتلأت “بالكلف” و”بكرات” الخيط و”الأزرار” و”الكستبانات” ومستلزمات الخياطة، هل أفتقد عم عباس من يحيك له الزر الناقص؟ ربما.. وأخرى حشدت “بإبر الوابور” و علب “الدبابيس” و أقلام “الحبر” و”البخور”.. وتكدست في ركن من الأركان رقع “الكانفاه” ذلك الفن الجميل الذي كانت تتفنن فيه الكثيرات ويتخذن منه أحيانًا وسيلة مساعدة لكسب الرزق ويزين جدران البيوت.
الأهم من كل ذلك بالطبع “الشمع” الذي كنا نوقده في الفوانيس “الصفيح” و”البمب” و”حبش وأطاليا” (وهي ورقة رقيقة عليها قطع صغيرة من البارود تحكها في الأرض فتصدر أصوات فرقعات مميزة، ويبدو أنها اكتسبت اسمها من الحروب القديمة التي دارت بين أثيوبيا وإيطاليا ولا أجزم بذلك بالطبع) و”الصواريخ” والتي كانت مكونة من سلك معدني رفيع مغطى بطبقة فضية منبعجة من مواد مفرقعة، عندما تشعلها تصدر بعد الشرر وأنت تأخذ في تحريكها بيديك حركة دائرية مستمرة.
ولم تكن كل تلك الطقوس تكتمل سوى مع غناء “حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو”.. خلفت تلك الألعاب البدائية بعض الجروح والحروق البسيطة، إلا أنها لم تكن تمنعنا أبدًا من مواصلتها بسعادة غامرة طغت على تلك الخدوش والآلام.
كنا نخاف من مظهر “عم عباس” وضخامته وجحوظ عينيه، رغم أنه كان طيبًا وسمحًا للغاية، كنا نتعمد “فرقعة البمب” أمام باب الحانوت ونفر هاربين، كان يرانا وينتفض أحيانًا من أثر المفاجأة، لكنه كان مشغولًا للغاية لترتيب أغراضه المبعثرة في كل مكان.
أحيانًا يقف على سلم خشبي صغير ليصل للأدراج العليا وقد أسنده على الحائط بحرص شديد خوفًا من ثقل وزنه، يقف بعدها لدقائق طوال وهو يقلب بيديه ما عثر عليه من أغراض، كأنه اكتشف خبيئة أو كنزًا في مغارة مجهولة، وتبدو عليه علامات التساؤل وهو يقبض عليها: من أين أتت تلك الأغراض؟ ثم يأخذ في نفض الغبار عنها نافخًا بفمه ماسحًا إياها بطرف كمه.
ويجلس للحظات لاهثًا ليستريح كمن هبط من جبل شاهق، يأخذ بعدها في قضم بضعة “ساندوتشات” هائلة من “الفول” و”الفلافل” بينما أوداجه قد توردت وأوشكت على الانفجار تمامًا مثلما انفجر “الزر المفقود” وخيوط العرق الغزير تسيل من على جبهته.
بدأ “عم عباس” يزداد كهولة، وأصبحت حركته ثقيلة بطيئة، وازدادت رجفة يده بشكل ملحوظ وأخذت الأغراض تسقط منها، وظل يومًا بعد يوم يتضائل وزنه وينكمش جسده (وإن ظل “الزر المفقود” فارًا هارًا أبدا)، وذاكرته تضعف شيئًا فشيئًا، ينسى أماكن بضاعته ويغفل عن تقاضي ثمنها أحيانًا.
لم يعد يواصل هوايته الاستكشافية ويصعد السلم الصغير، واكتفى بالأغراض المتناثرة المبعثرة حوله، ظل يداوم على عادته كل يوم ويصارع بسيفه أحكام الزمن والحياة.
لا أتذكر على وجه التحديد متى غابت صورة “عم عباس” عن المشهد وتوارت خلف باب خشبي عتيق معلقًا عليه قفلاً صدئًا محكمًا، كأنه ستارًا كثيفًا أسدل على حكايته وقصته.
ولم أعلم عن مصيره شيئًا حينها. كانت لحظات العمر المفعم بالبهجة لا تتوقف أمام تلك الأسئلة الغامضة الباحثة عن يقين.
سرعان ما وجدنا محلًا آخر يبيع لنا الشمع و”المفرقعات” وإن كان أغلى ثمناً قليلاً وأقل طيبة وتسامح.
وتمضي الحياة في سيرتها الأولى، نتذكر بعضًا من أحداثها وتغيب عن البال أخرى، نجد أشياء ونفقد ثانية، تفر هاربة منا ولا نستطيع استعادتها، تمامًا “كالزر المفقود”.