تاريخ أغفله التاريخ: إلى السادة شماشرجية وماسحى بلاط عصر الملك فاروق ملك الكوليرا والنساء والقمار

أحمد أبو بيبرس

سردية يكتبها: أحمد أبوبيبرس

لم أجد ما اوقظكم به من غيكم وضلالكم أفضل من هذا المقال الذى نشرته جريدة الاهرام من ٢٦ عاما زاخرا بالفضائح الموثقة عن حياة فاروق فى المنفى بقلم الأستاذ الصحفى الكبير عادل حمودة، مع أن حملة تلميع عهد الملك فاروق لم تكن بهذا الزخم منذ ٢٦ عاما كما هى عليه الآن لكنى وجدته صالح للنشر حديثا ولاحقا طالما حملات الزيف تزوير التاريخ مستمرة.

موسم البكاء على الملك فاروق

في الساعة السادسة من مساء يوم السبت ٢٦ يوليو ١٩٥٣ غربت شمس الاسكندرية.. وغربت معها الملكية فى مصر .. فقد أبتلع البحر والظلام الملك فاروق وهو على ظهر اليخت الرسمي المحروسة متوجها الى منفاه في ايطاليا بعد تنازله عن العرش الذي تربع عليه ١٦ سنة.

كان يرافق فاروق بناته الثلاث.. فريال وفوزية وفريدة.. وزوجته الأخيرة ناريمان التي كانت تحمل طفلها الرضيع أحمد فؤاد الثاني الذي أصبح ملكا.. لكن لم يكن يملك .. ولا يحكم.

وفي مخازن السفينة كانت ۲۱٧ حقيبة فيها ملابس الملك وأمتعته ومجوهراته وتحفه وشيكات وأشياؤه الثمينة.

إن هذا المشهد الشائع هو مشهد النهاية السياسية للأسرة المالكة فى مصر الذي توقفنا عنده دون ان نتابع بعده رحلة هذه الأسرة في منفاها وما الذي جرى لها.. إن معظم أسرار ما جرى هناك كان مجهولا لسبب هو أنه لا أحد كشفه لنا.
وقد شاءت الأقدار أن التقى منذ سنوات بالشاهد الوحيد على ماجرى لفاروق وأسرته في المنفى. هو أمين فهيم سكرتير الملك هناك.. وقد أمدني بكثير من الوثائق وكشف الكثير من الأسرار وأنا أعد كتابا عن آخر ملوك مصر الملك الرضيع أحمد فؤاد الثاني.. ثم تدفقت الحكايات والذكريات راسمة صورة لا أتصور أننا نعرف ملامحها ورتوشها وخباياها.. وأتصور أنه قد حان الوقت لأن نعرفها .
وأمين فهيم رجل أنيق، لغته راقية ذاكرته قوية، رغم انه من مواليد ٢٤ ديسمبر 1911 وقد بدأ عمله في القصر الملكى عام ١٩٣٢ مع زكي الإبراشي ناظر الخاصة الملكية ثم نقل إلى ديوان الملك وأصبح من المقربين اليه الذين يكلفهم بمأموريات خاصة بعيدا عن رئيس الديوان وأشهر هذه المأموريات تدريب ناريمان في ايطاليا على قواعد البروتوكول الملكية قبل أن تصبح ملكة.. وقد دخلت روما سراً باسم سعاد صادق.

وفي نهاية الأربعينيات نقل أمين فهيم للعمل في سفارة مصر بايطاليا، وبعد الثورة اختير رسمياً بقرار من على ماهر ليكون سكرتيرا لفاروق في المنفي.

كان آخر ما قاله فاروق لمحمد نجيب قبل أن يغادر مصر عبارة غامضة حيرت الجميع .. قال: أنتم سبقتموني إلى ما كنت أريد أن أفعله.
ويكشف أمين فهيم سر هذه العبارة قائلا: أن الملك فاروق في بداية الخمسينيات أحس بحالة زهق وهم في الاسكندرية، فأمر الحرس أن يبتعد عنه، وقرر أن يمشي بمفرده فى عربة حنطور على كورنيش البحر، وطلب من العربجي أن يتمهل ثم فتح حوارا معه:
الملك: ما رأيك في الملك فؤاد

العربجي: الله يرحمه كان ابن ..
الملك: وابنه ؟
العربجي ألعن منه.
لم يكن الرجل يعرف حقيقة الراكب وإن كان الراكب قد فهم حقيقة نفسه، وقال لسكرتيره الخاص: “ابتديت أفهم أن لازم أسيب البلد”.
لقد سمع بأذنه كراهية البسطاء فقرر الفرار.. ومنذ ذلك الوقت وهو يحول أمواله وسبائك الذهب
الى سويسرا.

وفيما بعد.. في المنفى قال فاروق أيضا أن ضباط الجيش سبقوه بستة أشهر فقد فكر في تجهيز اليخت فخر البحار بكل ما هو ثمين ويأخذ أولاده وتحت زعم انه سيقوم برحلة بحرية يذهب ولا يعود.
لقد فكر فاروق ونفذ ضباط الجيش.. وغاب ملكه في البحر مع غیاب شمس يوم رحيله.. وقد اختار فاروق الرحيل الى إيطاليا … وهو يعشقها.. وهي منفى جده الخديوى إسماعيل.. والمكان الذي كبر تعلم فيه أبوه الملك فؤاد.. ويجيد لغة أهلها .. ويعشق جوها ونساءها.

نزل الملك فاروق من اليخت وهو يرتدى بدلة بنية فلا يجوز له الآن أن يرتدى زى الأدميرال البحري الذي خرج به من الإسكندرية.. وكانت ناريمان ترتدى فستانا لونه بني أيضا وكان أول ما قاله بعد أن صافح عبد العزيز بدر سفير مصر في روما خرجنا من مصر بالهدوم اللي علينا.
وبكى جلال علوبة قائد المحروسة، والملك يودعه بالأحضان وبكى الملك كذلك.. وأغمى على اثنين من البحارة. وجاء قارب بخاري صغير ليحمل فاروق وأسرته وحاشيته إلى جزيرة كابري وقبل أن يصل فاروق الى الشاطيء خلع حذاءه وصلى ركعتين شكرا لله على نجاته.. ولكن سرعان ما واصل أشهر هواياته.. التهام الطعام… ومطاردة النساء بمجرد استقراره في فندق باراديزو الساحر في کابری.
وقد وافقت الحكومة الإيطالية على منحه حق اللجوء السياسي بشرط ألا يقوم بأي نشاط سياسي.

انتقلت العائلة المالكة من كابري إلى بلدة سانتا ماريللا التي تبعد عن روما بحوالي 17 كيلو مترًا وتطل على البحر. ولكن فاروق أحس بأنها غير آمنة فانتقل بعد شهرين إلى فيلا “دوسميث” في ضاحية جروتا فراتا التابعة لبلدة “فرسكاتي” الشهيرة بالنبيذ وتبعد 10 كيلومترات عن روما. والفيلا كبيرة ترقى إلى مستوى القصر. أمامها حديقة ومكونة من ثلاثة أدوار:

الدور الأرضي للاستقبال، ويضم صالونات متنوعة الطرز وحجرة مكتب فاروق وحجرة مكتب سكرتيرته وصالة طعام.
أما الدور الثاني فيضم شقة للملك وزوجته وشقة أصغر للسكرتيرة.
الدور الثالث والأخير مخصص للأميرات والمربيات وفيه الجناح الخاص للصغير أحمد فؤاد.

وفي مبنى ملحق بالحديقة كان يعيش الحرس الألبان المسلحون بالبنادق والكلاب الشرسة.

والمعروف أن الملك كان يهوى اقتناء الأنواع النادرة من الكلاب والمسدسات والسيوف والخناجر وطوابع البريد.

وفي المنفى واصل ممارسة هذه الهواية وأضاف إليها هواية تسجيل علاقاته النسائية في مفكرة خاصة، وصفت بأنها “مفكرة الغرام”، سجل فيها المعلومات الأساسية عن حريم المنفى.

وعكست هذه الهواية شعورًا هائلاً بالملل والفراغ، فلا شيء آخر يستهويه لا القراءة، ولا الرياضة، ولا المسرح، ولا المناقشات السياسية، ولا تأمل التجارب التاريخية بما في ذلك تجربته هو شخصيًا.

وفي كل مساء كان يتوجه بسيارته إلى روما، حيث يتناول عشاءه في كافيه دى بادى، وبعد العشاء كان يتردد على الملاهي الليلية بمختلف مستوياتها.

فقد كان زبونًا شهيرًا في “جيكي كلوب”، وهو ملهى تحت الأرض مبني في أحد سراديب روما القديمة، و”أوبن جيت” أو “البوابة المفتوحة”، وهو ملهى يتردد عليه الصفوة، و”البيجال”، وهو ملهى متوسط المستوى، بالإضافة إلى علب الليل الرخيصة المنتشرة في شارع “فينيتو” أو شارع الدعارة الذي انتعش بدولارات جنود الجيش الخامس الأمريكي في الحرب العالمية الثانية.

وكثيرًا ما كان يتردد على كازينوهات القمار الصيفية القريبة من ميدان باربريني، فهو الآن يقامر بأمواله فلا داعي للمجازفة. كذلك فإنه يقامر كشخص عادي لا كملك، كما كان في مصر، حيث كان الأثرياء يتعمدون أن يخسروا أمامه ليحققوا مطالبهم بعد ذلك. إنها رشوة من نوع خاص. ولا يمكن أيضًا أن يغش في اللعب كما كان يفعل وهو فوق العرش.

وكما انخفض مستواه في القمار انخفض ذوقه في النساء. كان مصدر الإعجاب به أنه ملك سابق، وكان مدخله لكل امرأة عبارة واحدة أصبحت شهيرة في كل ملاهي روما: “أه لو رأيتك من قبل، كنت جعلتك ملكة”.

وقد كان فاروق يحضر النساء إلى بيته أحيانًا دون مراعاة شعور زوجته، أو كن يذهبن إليه في شقة خاصة في الدور الثالث في أحد مباني شارع «برونوبوتس». كانت تتكون من حجرتين: نوم وصالون وحمام، وإيجارها الشهري 250 جنيهًا. وكان يدفع للمرأة ما بين 20 و 100 جنيه حسب مستواها.

وكانت أولى عشيقاته شقراء أمريكية اسمها دوري. أخذها فاروق من صديقها عازف البيانو الذي يعزف في الملاهي الليلية. وقد احتقرته في البداية ووصفته بالسمين والسخيف، ولكن هداياه التي أغرقتها جعلته في عينيها رشيقًا وخفيف الظل. على أن ذلك لم يستمر طويلاً، فبعد أن حصلت على ثمن سيارة حملت أكوام الهدايا وسافرت إلى باريس ولم تترك له سوى صورة صغيرة لها.

أما أشهر عشيقاته فهي إيرما كابيتش مينوتولو، وهي ابنة سائق تاكسي، جميلة، كانت تحلم بأن تكون نجمة سينمائية. وقد انتقلت للإقامة معه في بيته وراحت تتصرف فيه كملكة بعد أن فقدت ناريمان قدرتها على التحمل. لقد انفجرت المشاحنات بين فاروق وناريمان فور الاستقرار في روما، ووصلت إلى حد إهانتها أمام الخدم والمربيات. كان يقول لها دائمًا: «أنت جزمة في رجلي». ثم وصلت الإهانة إلى الضرب.

ضربها بقبضة يده، فسقطت على الأرض فاقدة الوعي وكادت أن تموت من الصدمة بالسكتة القلبية لولا أن سارع طبيب الضاحية لإنقاذها.

سيطرت عليه علامات الدهشة والاستنكار، وخرج وهو في حالة اشمئزاز قائلاً: “هذه هي المرة الأولى في حياته التي يسمع فيها أن ملكًا ضرب ملكة، علقة لكن فاروق لم يشعر بالخجل وقال لسكرتيره وهو يشعر بالانتشاء: “لعله تستفيد من هذه العلقة، لقد أردت أن أعطيها درسًا، أظن أن هذه الضربة سوف تؤدبها، أحسن طريقة لمعاملة الزوجة أن تضربها علقة”.

ثم استطرد: “أنا لو كنت ضربت فريدة علقة يوم الدخلة لما حدث الطلاق، ولكانت زوجتي حتى الآن، ولو علم الناس أنني ضربت ناريمان ليلة الزفاف لمشت مثل الـ (…..) ولكنها غلطتي أنني عاملت فريدة وناريمان كملكات، فشعرت كل منهما أنها مثلي”.

وقد اشتكت ناريمان لسكرتير الملك أمين فهيم قائلة: “يصح يا أمين أن الملك يضربني زي أي واحد في الشارع؟ ما يضرب مراته؟ يصح أنه كان حيموتني، كنت حاروح في شربة مية”.

ثم قالت:

“أنا مش ممكن أقعد معاه، لازم أمشي، لازم أسافر”.

– “اهدئي يا مولاتي حتى نعرف كيف نفكر”.

“أنا مستعدة أن أهدأ وأبقى وأسكت وأكتم الفضيحة، ولكن بشرط”.

ما هو؟

– “أن يدفع الملك الثمن”.

ثمن العلقة؟

“نعم، (100) ألف جنيه”.

ورفض فاروق أن يدفع، فهددته بالفضيحة، فقبل أن يدفع 20 ألف جنيه. فهزت ناريمان كتفيها قائلة: “أنا ما بيعش ترمس”.

واستسلم فاروق في النهاية وحول المبلغ من حسابه إلى حساب ناريمان في أحد البنوك السويسرية، ولكن قال وهو يوقع خطاب التحويل:

“هذه عقلية كباريهات لا عقلية قصور، يا سلام، مائة ألف جنيه من أجل علقة … ان هذا تفكير راقصة لا تفكير ملكة”.

واستقامت الأمور بينهما بعض الوقت، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً.

فذات ليلة كانا معًا في ملهى ليلي، ومشت تتبختر، وفجأة ضج المكان بالضحك ولم تعرف السبب إلا بعد أن اكتشفت في مرآة الحمام أن فاروق علق على ظهرها ورقة كتبت عليها باللغة الإيطالية “ناريمان جارية فاروق…” ومرة أخرى كاد قلبها أن يتوقف من الفضيحة.

سافرت ناريمان إلى سويسرا وهناك قابلت أمها أصيلة هانم المعروف عنها سرعة التفوه بألفاظ حادة، والتي وجدت أنه أن الأوان للتدخل فعادت هي وابنتها إلى إيطاليا وقبل أن يرحب بها فاروق وجدها تقول له باندفاعها الشهير:

“لا تؤاخذني يا مولانا، نفرض لا سمح الله جرى لك حاجة، مفيش ضمان لبنتي في المستقبل”.

وثار فاروق:

“أنا لا أسمح بهذا الكلام، كل كلامك أنت وبنتك فلوس، عاوزين بس فلوس”.

ويقول لي أمين فهيم إن فاروق استدعاه في هذه اللحظة وطلب منه أن “يشوف طلبات الولية دى”… على حد تعبيره.

وكانت مطالب أصيلة هانم، “الولية”، الحصول على:

التاج الألماسي (دياديم) الذي أعطاه فاروق لناريمان يوم الزفاف.
هدايا عقد القران، وكلها تحت يد فاروق.
كتابة خطاب إلى الحراسة في مصر لتسترد ناريمان مبالغ حسبتها الحراسة عليها وكان على فاروق أن يدفعها.

وأضافت الأم: “أما أن ينفذ الملك الطلبات وأما أن تأخذ ابنتها معها”.

لكن الملك وعد بالتنفيذ حتى تعود حماته إلى القاهرة، ثم رجع في كلامه.

فإذا بالأم ترجع إليه وهي في شدة الغضب ولم تتردد هذه المرة في إهانته حسب رواية عم ناريمان الطيار مصطفى صادق كما نشرها جميل عارف في كتابه عن ناريمان، ويمكن تلخيصها على هذا النحو الذي يمكن وصفه بأنه “فاصل” من الردح الملكي:

أصيلة: “أنت واطي ودون وعمرك ما تعرف الأصول وأنا عاوزة بنتي معايا”.

فاروق: “مفيش مانع، بس اسكتي وبلاش فضايح”.

أصيلة: “مش حاسكت إلا إذا أخذت بنتي معايا”.

فاروق: “أخرسي، أنا مش عاوزك تتدخلي في شئوني”.

أصيلة: “هو أنت أخذت البنت علشان تبهدلها في الغربة، الحق عليها اللي سافرت معاك، واحدة غيرها كانت سابتك وقعدت في بلدها”.

فاروق: “هو أنا عملت ايه أصيلة؟ ولا حاجة يا سي فاروق كان ناقص تعلقها من شعرها وتنزل فيها ضرب، كفاية اللي أخذته على وشها”.

فاروق: “أسكتي أحسن لك، يا أمين شوف الست دى عايزة ايه… يا ناريمان خللى الولية أمك تسكت أحسن أوريها شغلها”.

وانتهت المشاجرة بسفر ناريمان وأمها، وفي القاهرة رفعت ناريمان قضية طلاق، وحصلت عليه بعد أن تنازلت عن النفقة وحضانة الطفل.

وعاش فاروق نفس الحياة حتى مات على هذا النحو من الفساد والانحلال دون أن يضيف إلى بلاده أي شيء.

وقد وجدت أن من المناسب رواية هذه القصة حتى يهدأ – ولو قليلاً – أعضاء جمعية البكاء على العصر الملكي، والذين يمارسون نشاطهم في موسم الصيف، موسم الهجوم على ثورة يوليو.

عادل حمودة جريدة الأهرام يوليو ١٩٩٨ .

اقرأ فى هذه السلسلة:

 

زر الذهاب إلى الأعلى