تاريخ أغفله التاريخ: تداعيات ما بعد معركة المطار وأسرار القيادات الخائنة وسقوط بغداد

أحمد أبو بيبرس

سردية يكتبها: أحمد أبوبيبرس

استبيحت أرض العراق وسقطت عاصمة الرشيد .. ليس لضعف أو جبن ليس لخوف أو تراجع بل بسبب طعنات مسمومة ارتكبها بعض الموثوق فيهم بخسة ونذالة. باعوا شرف بلدهم. واستبدلوه ببضع سنوات في وكر الأعداء وبضعة ملايين من الدولارات… أهدروا كرامة أمتهم.. وخانوا حاضرها في مقابل مستقبل غامض مجهول.. أثروا شراءه ومقايضته بدماء الشهداء…

أخذوا معهم بفعلتهم الشنعاء «أمة كاملة»

كانت هذه الكلمات المؤثرة هي جزء من مقدمة مقال مصطفى بكرى في جريدة الأسبوع لعدد 5 مايو 2003 لم أجد أفضل منها لافتتاحية مقالي

كيف بدأت الخيانة عملها في أجنحة نظام الرئيس صدام حسين؟

البداية: كانت محاولات أدمنتها الأجهزة الأمريكية والبريطانية جيداً .. التركيز على شراء القطط السمينة و القطط السمينة هنا هي الدائرة المحيطة بالرئيس العراقي صدام حسين.. ولكن.. كيف الوصول إليهما؟ الطريق كان للأسف سالكاً، بل ومعبداً.

ولطالما كرر المسئولون الأمريكون والبريطانيون.. حين أعلنوا في العديد من مؤتمراتهم الصحفية أنهم على اتصال بكبار القادة العسكريين…. لكن يبدو أن القيادة العراقية التي أسلمت مراكزها الحساسة لبعض ذوي القربي ظنت أن اختراق دائرة «العصب العائلي» هي أقوى من كل المحاولات.. . هكذا أسلمت القيادة العراقية ظهرها .. لمن أغمدوا سيوفهم فيها بلا شفقة… لقد سلك القطار الأمريكي طريق عدد من ضباط الجيش ورجال المخابرات السابقين.. فسرعان ما استقل قطارهم ثلة من ضعاف النفوس.. من ضباط وموظفين… وشخصيات كانت موضع ثقة الرئيس العراقي صدام حسين.. وأركان حكمه.. وعبر هؤلاء

راحت بوابات «القطار» تحمل كميات لا بأس بها من المعلومات بالغة الأهمية..

أساليب تجنيد المخابرات الأمريكية للعنصر العراقي المستهدف بحسب أهميته:

كان الوصول إلى مفاتيح العميل.. وفك شفرته يتحرك في اتجاهين متوازيين..

أولهما (بالترغيب): يُقدم اغراءات لا قبل له بها .. تبدأ بعرض مبلغ ضخم من ملايين الدولارات تودع في حساب خاص به بالولايات المتحدة.. وتمتد إلى الايحاء بأنه قد يكون رجل العراق القادم وذلك حسب علو منصبه ودرجته في الدولة

أما ثانيهما ..(بالترهيب): فقد اشتمل على تحذيره من مغبة الرفض أو التردد.. مستخدمين في ذلك كافة وسائل التأثير النفسي ومنها أن معركة بغداد خاسرة … وأن مستقبل صدام حسين محكوم عليه بالانتهاء.. وأن أمريكا التي تخوض معركتها الفاصلة لن تتردد أبداً في قصف بغداد بالقنابل النووية التكتيكية إذا ما استعصت المدينة على السقوط في يدها.

وما بين الإغراءات والتحذيرات.. وحيرة الرجل أو العنصر المستهدف .. جائته التطمينات بأن «خيانته، سوف تبقى طي الكتمان ولن يعلم بها أحد.. وأنه وعائلته سينقلون فوراً إلى الولايات المتحدة مع أول دخول للقوات الأمريكية إلى داخل بغداد
تمكنوا من اصطياد أحد أبرز رجالاته وأكثر المفضلين لديه وابن خالته

1 ــ الفريق ماهر سفيان التكريتي، قائد قوات الحرس الجمهوري الخاص

وجدوا في ماهر التكريتي البيضة الذهبية القادرة على منحهم السر الكبير فلقد احتل سفيان التكريتى موقعاً فريداً فى قلب الرئيس العراقي وكان معنياً بالحفاظ على أمنه الشخصى، وكان يحكم موقعه المقرب.. معنيا بنقل معلومات تقع كلها تحت بند سری التعليمات التي يصدرها صدام إلى العديد من الجهات العسكرية والمخابراتية في البلاد. جداً. أي أنها تشكل قلب وعقل القرار العسكري والسياسي في العراق….
بحسب المصادر الهامة ذاتها .. فإن عملية التجنيد سارت في دروب متعددة.. غير أن أكثر القنوات تأثيراً .. تمثلت في اتصالات أجراها عدد من الضباط الهاربين لديهم معرفة وثيقة به مستخدمين في أداء مهمتهم شخصية عراقية كقناة مرور إليه.. وهي من الشخصيات المقربة جداً إليه. وتم عرض مبلغ 25 مليون دولاء مقابل خيانته وتهريبه خارج العراق
كانت ملامح الخيانة قد بدأت تخيم فوق بغداد فالفريق ماهر سفيان التكريتى وبحكم قربه من الرئيس العراقي كان على اطلاع تام بمختلف خطط المواجهة العراقية.. بل وكان من القلائل . الذين يعرفون كل شي… فقد كان مصدر ثقة الرئيس ومستودع أسراره.. ولأنه كذلك.. فقد كانت الإجابة على السؤال اللغز هي أكثر ما يشغل بال الأمريكيين
كان السؤال المحير الذي رددته كل الدوائر الأمريكية هو عن سر هذه الثقة التي تكلم بها صدام حسين قبيل الغزو بأسابيع حين هدد من وصفهم بمغول العصر بالانتحار على أسوار بغداد.. ولماذا لم يقل على أبواب العراق».. وماذا يعني بأسوار بغداد؟.. وهل يمتلك الرئيس العراقى خطة أم أنه يُعد مفاجآت مذهلة للقوات الأمريكية. كانت الاجابات متوافرة بشكل مذهل عند الفريق «الخائن». كعربون لحسن النية.. ولإثبات عمالته المبكرة .. قدم الفريق الخائن ( رأس بغداد) على طبق من ذهب للأمريكان.. فلقد أبلغهم مبكراً عبر «الوسيط» الذى فتح معه «قناة الخيانة» أن ما أعلنه الرئيس العراقي لم ينبع من فراغ.. وإنما مبنى على حقائق وخطط تم وضعها .. وإقرارها لإغراق الأمريكيين في بحيرة من «الدماء» إذا ما وصلوا إلى أسوار بغداد ومحيطها .. فلقد اعتمدت تلك الخطط على الدفاع عن بغداد بمسافة تبعد ٢٥ كيلو متراً من مركز العاصمة .. حيث تمكن العراق من تشييد سبعة خطوط دفاعية في مناطق الحقول الزراعية المحيطة ببغداد .. وأن الفاصل بين كل خط دفاعى والآخر نحو ألفين وخمسمائة متر وهى عبارة عن براميل من النفط الخام، ومادة تي إن تي ومتفجرات أخرى وضعت بعمق خمسة مترات، وتحيط ببغداد من كافة الاتجاهات.

حيث تضمنت الخطة ربط كافة هذه الخطوط الدفاعية بالسيطرة المركزية كانت الخطة المعدة تقضي باستدراج القوات الأمريكية للوصول إلى المنطقة المحيطة ببغداد – وهو ما أعلن عنه وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف – وكانت تقضي بانتظار تمركز القوات الغزاة والياتها في تلك المنطقة … ثم يجرى تفجير الخطوط الدفاعية من خلال السيطرة المركزية.. الأمر الذي سيحول تلك المنطقة إلى جهنم … ويوقع أعداداً هائلة من القتلى في صفوف القوات الأمريكية قدرتها التقارير والتوقعات العراقية بنحو ٢٥ ألف قتيل على الأقل معتبرة أن من شأن ذلك أن يدفع واشنطن للتراجع عن عدوانها، والبحث عن صيغة تفاهمية جراء هذا العدد الضخم من القتلى حين وصلت هذه المعلومات عبر وسيط مقر القيادة العسكرية، الفريق الخائن، إلى الولايات المتحدة. حدثت حالة من الانزعاج الشديد ووجد القادة العسكريون الأمريكيون في ..رجلهم «الخائن».. وبما يشغله من موقع، وما يحظى به من ثقة، وبما هو يطلع عليه من معلومات، القدرة على القيام بالمهمة الرئيسية في مسلسل خيانته لوطنه.. ألا وهو إفشال المخطط الدفاعي الذي استعد به العراق لملاقاة مغول العصر عند أسوار بغداد …

وعبر سيناريو محكم.. قدم الأمريكيون للفريق الخائن ماهر سفيان التكريتي سلسلة من المطالب.. التي يمكن عبرها إجهاض المخطط.. واسقاط تهديدات صدام.. وتمثلت تلك المطالب.. فيما يلى:

أولاً: – سحب قطاعات الحرس الجمهوري الموجودة على محورى «الحلة – بابل» وطريق بغداد – الكوت» والزج بها في معركة. أسموها معركة مطار بغداد الدولي.. والقطاعات التي يتم سحبها تعد «نخبة الحرس الخاص» وهى «قوات المدينة المنورة وقوات نبوخذ نصر وقوات الفاروق ثانيا : – تقديم خريطة كاملة بالخطوط الدفاعية السبعة حول بغداد، والعمل على ابطال مفعولها وتخريب الكنترول المركزي. ثالثا : – أن يصدر تعليماته بصرف عناصر القوات إلى بيوتها . وترك أسلحتها الثقيلة منها خاصة في مواقعها .

2 ــ دور منظمة مجاهدى خلق فى خيانة الجيش العراقى : ـــ

في هذا الوقت.. كانت وكالات الأنباء والمحطات الفضائية تذيع أنباء عمليات الإنزال العراق الأمريكية التي تمت بجوار مطار بغداد الدولي.. وبالتحديد في منطقة أبو غريب، التي الأمل تجاور إحدى المناطق السكنية، وأخرى مكشوفة.. وإلى جوارها مانع مائى يصعب اختراقه والمسمى ذراع دجلة».

وبالقرب من تلك المناطق.. توجد معسكرات خاصة لجماعة «مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة لنظام الحكم الإيراني والتي احتضنها العراق بقيادة مسعود رجوى لسنوات طويلة.. وتحمل تبعات استضافتها في التوتر المتبادل والثارات الدفينة التي خيمت على أجواء العلاقات الإيرانية العراقية.

وبدلاً من أن يحفظ «رجوى وجماعته الجميل للعراق على تحمل تبعاتهم طيلة هذه السنوات.. عقد هو الآخر صفقة مع القوات الأمريكية ضد النظام في العراق.. ليوجه بذلك طعنة أخرى غادرة فى مواجهة العراق الذي وفر له الأمن والحماية على مدار سنين طويلة مضت. لم يكن ماهر سفيان التكريتي هو الخائن الوحيد في صفوف القادة العسكريين العراقيين.. بل شاركه في سلوكه الخياني آخرون يتقدمهم:

3 ــ  الفريق أول / حسين رشيد التكريتي ـ سكرتير القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية،  والذي مكن بخيانته القوات الأمريكية من الدخول إلى منطقة «الدورة» انطلاقاً من منطقة «هور رجب» وتردد أن ضابط الارتباط الذى شارك في تنفيذ هذا الاتفاق هو:

4 ــ ابنه الرائد / على حسين رشيد التكريتي  السكرتير الشخصي لقصى صدام حسين نجل الرئيس العراقي.. حيث قيل إنه تمت مكافأتهما بمبلغ 5 ملايين دولار… بالاضافة الى ترحيلهما إلى الولايات المتحدة مع عائلاتهما . وقد لعب الفريق حسين رشيد التكريتي الدور الأساسى فى إصدار التعليمات للقوات المسلحة العراقية بمغادرة مواقعها استناداً إلى قرارات تم تزويرها ونسبتها لوزير الدفاع سلطان هاشم أحمد .. أما نجله «الرائد على» فقد قدم معلومات على جانب كبير من الخطورة فيما يخص خطة تأمين بغداد والتي كان قصى صدام حسين هو المشرف على تنفيذها .

وفي ثلة الخونة.. كان هناك أيضا:

5 ــ الضابط النقيب / عدنان يوسف حسن الذي كان يتولى مسئولية حماية بعض الأماكن الخاصة والبديلة للرئيس العراقي، حيث يوجد نحو (٥٠) موقعاً بديلاً كان الرئيس صدام يتنقل بينها .. ويعقد فيها اجتماعاته بعيداً عن المواقع المعروفة.

كانت الأجهزة الأمنية المقربة من صدام حسين قد شككت في ولاء الضابط وراحت تتبعه، وترصد تحركاته، ثم ما لبثت أن توصلتةإلى بعض المعلومات التي تشير إلى احتمال عمالته للاستخبارات الأمريكية.

عندما رفعت هذه المعلومات للرئيس العراقي حاول التأكد بنفسه من هذه الشكوك فأوحي لبعض المقربين كي يبلغوه بأن هناك اجتماعاً للقيادة العراقية سوف يعقد في مطعم الساعة الذي يمتلكه مواطن مصرى يدعى أبو وليد، وهو صديق شخصي لنجل الرئيس العراقي عدى كان الاسم الرمزي المطعم الساعة هو أبو جعفر المنصورة فذكر امام الضابط الخائن أمراً أمراً . بشأن تهيئة أبو جعفر المنصور وذلك يوم السابع من أبريل..
وبالفعل جاء صدام في الموعد المحدد. ويصحبته نجله قصي بسيارة تاكسي من نوع نيسان، وبعض الحراس من خلفه في سيارة أخرى على الفور دخل صدام ونجله وبعض الحرس الخاص من الباب الأمامي. ثم خرجوا على الفور من الباب الخلفي.. وما هي إلا بضع دقائق حتى كان المطعم والمنطقة المحيطة به تقصف بقنابل زنة ۱۰۰۰ رطل للقنبلة الواحدة.

هنا تأكد صدام من عمالة النقيب عدنان يوسف حسن للأمريكيين، فأمر بتفتيشه، فعثروا معه على هاتف ثريا محمول مربوطة مباشرة بالأقمار الصناعية. وعندما تمت مواجهته، اعترف الضابط بعمالته، فتم إعدامه على الفور رمياً بالرصاص.

لم يكن طريق الخيانة الذي أسقط بغداد قاصراً على العسكريين فقط، بل امتد ليشمل عدداً من المدنيين العراقيين، ومن بين هؤلاء:

6. موظف بالقصر الجمهوري يدعى “عيسی عبد الأحد”.

كان هذا الموظف على علاقة مع أحد الضباط العراقيين الذي تمكن من الهرب من العراق في شهر يوليو عام ٢٠٠٢. كان هذا الموظف يعمل في قصور الرضوانية، وكان الضابط صاحب العلاقة الخاصة به برتبة عميد، ويدعى “ماجد”. تمكن الضابط من الحصول على جواز سفر مزور دفع فيه مبلع ملايين دينار عراقي، حيث سجل أمام خانة الوظيفة في الجواز المزور مهنة “تاجر”، الأمر الذي مكنه من الهرب إلى الأردن.

كانت وسيلة الاتصال بين الموظف العامل بالقصر الجمهوري والضابط الهارب سائق أردني يعمل على الخط العراقي – الأردني.

تمكن العميد الهارب من إغرائه بالمال وتجنيده، حيث كانت مهمته هي استلام المعلومات من الموظف عيسى عبد الأحد حول تحركات صدام حسين داخل القصور والغرف التي يستخدمها، وتوصيلها إلى العميد “ماجد”.

وقد جاءت عملية سقوط هذا الموظف العراقي مصادفة، حيث تم القبض عليه بينما كان يهم بتسليم المعلومات إلى السائق الأردني. جرت عملية إعدامه يوم ١٦ مارس، أي قبل الحرب بأربعة أيام فقط.

لم يقتصر طابور الخونة عند هذا الحد، بل ضم عدداً غير قليل من ضباط المخابرات العسكرية والعامة. تم تجنيدهم من خلال اتصالات تولاها واحد من كبار ضباط المخابرات العراقية الذي اختلف مع نظام صدام حسين، وتمكن من الهرب إلى ألمانيا. من هناك، بدأ خطة لاصطياد خونة آخرين، كانوا بالإضافة لمن سبق كشفهم الجسر الذي عبرت من فوقه القوات الأمريكية وهي بصدد احتلال حاضرة الخلافة، بغداد الرشيد، التي ابتليت ببعض أبنائها.

ومازلنا مع مصطفى بكرى، حيث كانت الفقرة السابقة من مقاله بجريدة الأسبوع عن أسماء أشهر الخونة في الجانب العراقي. لكن مصطفى بكرى، في كتابه “العراق.. المؤامرة، الخيانة، الاحتلال” الذي صدر بعد تاريخ كتابته للمقال السابق، أجاب فيه على أهم ثلاثة أسئلة شغلت إجابتهم أذهان الجميع:

– كيف نجحت المخابرات الأمريكية في تكوين شبكة ضخمة من العملاء من رموز الجيش والدولة في العراق بهذه البساطة؟

ما ساعد الأمريكان في بناء رسم نموذج للمواقع العسكرية والمدنية داخل العراق هو أعداد العملاء الخونة العراقيين الذين انتشروا في العراق بصورة كبيرة. حتى أنه بعد شهرين من بداية الغزو العسكري للعراق، تردد أن عدد العملاء العراقيين بلغ أكثر من 3000 شخص. إلا أنه ليس المهم في هذا العدد بقدر أن عدداً كبيراً منهم كان يشغل مواضع حساسة داخل الجيش. والعوامل التي هيأت النجاح لهذا العدد الكبير من العملاء هو ما نجحت فيه الأجهزة الأمريكية في تجنيد عدد من العاملين في المخابرات العراقية التي بدت ضعيفة وهشة في الأشهر الأخيرة قبل اندلاع القتال.

– وكيف فشلت المخابرات العراقية، على كفاءتها، في اكتشاف عملاء المخابرات الأمريكية؟

أحد الأسباب المهمة لذلك أن قصي صدام أقنع والده بتوقع قيام حركة تمرد كبرى داخل العراق تهدد السلطة العراقية. لأن معلومات القصر الجمهوري، وفق الوثائق التي حصل عليها الأمريكان بعد دخولهم بغداد، أفادت بأن الأمريكان فعلاً اتفقوا مع الأكراد وجزء من الشيعة على القيام بثورات مسلحة ضد الجيش العراقي وأنهم خططوا لاغتيال صدام بطريقة انتحارية. فأصبحت مهمة المخابرات العراقية التركيز على مجموعات الأعداء القدامى للسلطة. وبدأت المخابرات والأجهزة الأمنية الأخرى في عمل ملفات جديدة لهؤلاء الأكراد القدامى، حتى أن ذلك صرفهم تماماً عن المجموعات الجديدة التي بدأت تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، بمن فيهم كبار الضباط والقيادات الذين حازوا على ثقة القيادة العراقية. وهذا سبب رئيسي أدى إلى فشل الخطة العسكرية العراقية، على الرغم من أنها كانت مهيأة للتعامل العسكري مع القوات الغازية.

– لماذا لم يأمر صدام بتدمير الكباري والجسور على نهر دجلة في معركة؟

تجلت الخيانة في أبشع صورها بعد معركة المطار وتقدم العدو نحو بغداد، حيث لم تنفذ القيادات الخائنة أوامر الرئيس صدام حسين بنسف الكباري والجسور المؤدية إلى بغداد على نهر دجلة. كان من المفترض أن تنفذ خطة التدمير في توقيتات معينة متفق عليها لعزل وحصار القوات الأمريكية الغازية عندما يكتمل تقدمهم ويتم عزلهم عن بعضهم البعض. لكن القيادات المنوط بها تنفيذ هذه الخطة كانوا يعملون مع الأمريكان! لدرجة أن صدام جن جنونه عندما عجز عن أن يحاصر القوات الأمريكية في بغداد خلال هذه الجسور والكباري. بل إن بعض المسؤولين العراقيين الذين استجوبهم الأمريكان فيما بعد أفادوا أن صدام تأكد من وقوع الهزيمة عندما وجد الجسور العراقية خالية وسليمة لم تدمر.

ويدلي المؤلف زكي محمود زكي، صاحب كتاب “بغداد بين الخيانة والتكنولوجيا”، بدلوه في قصة الخيانة بمعلومات جديدة.

يُضاف إلى ما تقدم من موافقات وعهود موافقة أمريكية على نقل بعض قيادات الصف الأول وعائلاتهم إلى أمريكا مع إقامة دائمة إذا ما رغبوا في ذلك. وربما أبدت بعض القيادات شكوكاً حول سلامة النوايا لدى الأمريكيين وتلبيتهم لتلك التعهدات. لذا اضطرت القيادة الأمريكية لأن تطمئنهم وتحوز ثقتهم بأن تكشف عن بعض أسرارها: أن بين عناصر الدروع البشرية ممن توافدوا على العراق لحماية بغداد بأجسادهم اندس بينهم عملاء المخابرات الأمريكية. كانت المهمة الأساسية لهؤلاء هي إخطار الأجهزة العسكرية الأمريكية بالمواقع المهمة، وعلى وجه الخصوص تتبع تحركات الرئيس العراقي السابق وأعوانه.

وكان هؤلاء العملاء مزودين بأجهزة اتصال دقيقة من أحدث التكنولوجيا. تم ترتيب مقابلات مباشرة لهم مع قيادات الحرس الجمهوري الذين تسلموا منهم هذه النصوص المكتوبة للاتفاق المزمع. وهذا ما طمأن قيادات الحرس الجمهوري المتأمرة إلى حد ما. كانت هذه النصوص تتضمن ما يراد منهم، وضمانات تحقيق التعهدات بالمقابل. ومن بين التعهدات أن تتوجه قيادات الحرس الجمهوري إلى المطار بمجرد احتلاله وإعلان السيطرة عليه تمهيداً لنقلهم من بغداد. فإذا تعذر عليهم ذلك لسبب أو آخر، يكون لزاماً أن يتوجهوا إلى أحد موقعين محددين في ضواحي بغداد حيث تنتظر في كل منهما طائرتان مروحيتان من نوع أباتشي.

وكانت عملية احتلال المطار نقطة التحول التي أدت بالقوات الأمريكية إلى تنفيذ الخطة بكاملها. وكما وعدت بها، قامت قيادات الحرس بدورها من حيث تقديم معلومات وافية عن مواقع المقاومة فيها حول المطار وبداخله. كما قدمت معلومات وافية عن “الأنفاق” تحت الأرض تلك الممتدة من القصر الجمهوري إلى داخل المطار والتي تتيح للرئيس العراقي السابق أن يهرب منها حين يتعرض للخطر. ولم يكن يدري بها أحد غير بعض قيادات الحرس الجمهوري.

أما ما حدث في المطار فتم على الوجه التالي: تجمع العديد من قيادات الصف الأول في مطار بغداد الدولي (صدام سابقاً) وظلوا في الانتظار نحو ثماني ساعات قبل أن يلحق بهم باقي القيادات. وكانت المفاجأة التي أذهلت القيادة الأمريكية عندما اصطحبت قيادات الحرس معهم أكبر رأس في قوة “فدائيو صدام”. أقلعت الطائرة العسكرية من المطار في تمام الساعة الثامنة مساء ثالث يوم من احتلال المطار متجهة إلى أمريكا مباشرة عن طريق ألمانيا. وربما تم نقلهم إلى الكويت في الوقت نفسه. قامت طائرتا هليكوبتر بنقل قيادات الصف الثاني من الحرس الجمهوري إلى البصرة حيث استقبلتهم القوات البريطانية.

واستفادت القوات الأمريكية من المعلومات التي لدى تلك القيادات في القبض على العناصر الوطنية الشريفة الأخرى من مقاتلي الحرس الجمهوري وفدائيو صدام التي حاولت التخفي في ملابس مدنية بعد إتمام العدو الأمريكي احتلال مدن الجنوب.

وقد أفادت بعض التقارير أنه طوال يومي ٨ و ٩ أبريل ٢٠٠٤ كانت هناك قوات جيش نظامية مع قوات الحرس الجمهوري منتشرة في الحدائق والبساتين الشاسعة في وسط وأطراف بغداد. وكان هناك أفراد من القوات الخاصة الأمريكية وعملاء عراقيون قد تسللوا ومعهم أجهزة إرسال إلكترونية صغيرة في حجم علبة السجائر يلقونها في هذه البساتين. وبعد لحظات كانت تصل الطائرات الأمريكية لتبيد أغلب القوات العراقية. وما بين الخيانة والاستسلام بالأمر الواقع وخوفاً على أرواح مقاتلي الجيش العراقي، تم تسريح القوات التي تبلغ أكثر من نصف مليون للدفاع عن العاصمة. وفتحت بغداد أبوابها للقوات الغازية دون أي مقاومة على الإطلاق.

وأخيراً، يقول الكاتب الصحفي عادل حمودة:

في شوارع بغداد قبل سقوطها، على حد رواية نيوزويك الأمريكية، انتشر جواسيس عرب وأسبان راحوا يقدمون تقاريرهم أولاً بأول عبر أجهزة اتصال بالأقمار الصناعية عن كل ما يرونه: حركة الأسواق، منسوب المياه تحت الجسور، عدد المخابز الليلية، طبيعة التحصينات في الشوارع. بل أكثر من ذلك، كان بعض هؤلاء الجواسيس قريبين من الرئيس العراقي السابق وكانوا ينقلون تحركاته وأماكن مبيته. وهو ما جعل الحرب تبدأ قبل موعدها بنحو ٣٦ ساعة، عندما تقرر ضرب مقر ينام فيه صدام حسين هو وولداه وبعض رجاله. فالحرب بدأها عملاء وليس الجنرالات.

وهو ما جعل اقتحام بغداد برياً يبدأ قبل موعده المحدد بنحو ٣٦ ساعة أيضاً. فقد كانت الأرض مفروشة بالرمل والورد أمام القوات الغازية.

وقد اخترقت شرايين العاصمة العراقية بنفس سهولة اختراق سكين ساخن في قالب من الزبد على حد قول «تومى فرانكس قائد هذه الحرب.

لقد كانت هناك حرب أخرى… سرية.. وقذرة.. أشد فاعلية من الحرب الساخنة.. وربما أكثر تأثيرا.

هذه الحرب الأخرى هي التي قادتها وكالة المخابرات المركزية.. وجماعات محترفة في مجالات الانهيارات النفسية الجماعية.. وهو ما جعل «نيوزويك تعترف علنا بأن «الرشوة كانت سلاحا فعالا في هذه الحرب»، فقد كانت هناك عشائر جاهزة للتعاون مقابل مناصب تحصل عليها فيما بعد.. وليس مقابل أموال كما كان الحال مع قبائل أفغانستان.. فالعشائر العراقية عشائر ثرية، ليست في حاجة إلى الثروة وإنما في حاجة إلى السلطة.

وكانت هناك حقائب مملوءة بالدولارات وجوازات سفر أمريكية في انتظار من يتعاون لغلق آبار البترول قبل حرقها، أو لإقناع قواته بخلع الملابس العسكرية والابتعاد عن ساحة القتال.. والاختباء بعيدا عن ميادين النار، وهو ما اعترف به عدد من الضباط العراقيين في تقارير صحفية وتلفزيونية نقلت عنهم.

ولم تكن الصحافة بعيدة عن مرمى الإصابة. فعندما فتحت النيران على مراسلي قنوات إخبارية عربية لقتلهم، كان ذلك نوعًا من إبعاد عيون الكاميرات وآذانها عما يجري من صفقات خفية لتسليم العاصمة العراقية.

لقد غرق المراسلون في دموعهم وأحزانهم ولم ينتبهوا إلى أنهم يدفعون بعيدًا عن أحداث مصيرية جاءوا ليكونوا بالقرب منها ويشهدوا عليها.

ختامًا: تم توثيق الخيانة وأسباب سقوط بغداد يوم 9 إبريل 2003 من عدة مصادر.

وإذا كانت بغداد هي عروس عروبتكم، فكيف سمحتم لزناة الليل أن يدنسوا خدرها الطاهر؟

لم تسقط بغداد، إنما دخلها الساقطون.

…………………………………………………………….

المصادر:

  1. كتاب “العراق: المؤامرة، الخيانة، الاحتلال” – مصطفى بكرى ومحمود بكرى، 2004
  2. كتاب “بغداد بين الخيانة والتكنولوجيا” – زكي محمود زكي، 2003
  3. مقال الكاتب الصحفي مصطفى بكرى بعنوان “أسماء الخونة الذين سلموا مفاتيح بغداد للأمريكان” – جريدة الأسبوع، 5 مايو 2003
  4. مقال الكاتب الصحفي عادل حمودة بعنوان “أصل الحكاية” – جريدة الأهرام، 26 إبريل 2003

اقرأ أيضا:

زر الذهاب إلى الأعلى