محمد قدرى حلاوة يكتب: ” عم إسماعيل “
بيان
” يا قوي على كل قوي يا رب”.. صيحة مدوية كان يطلقها عم ” إسماعيل” في كل لحظة وهو رائحا غاديا في شارعنا الصغير لا يكاد يتوقف.. لحيته الكثة وشاربه المتهدل يطغيان على ملامح وجهه.. قدمه الحافية تبرز فيها الشقوق العميقة كالأرض الشراقي العطشي.. أما عينيه المترمدة فقد كانتا تنظران إلى الأعلي دائما نحو اللا شئ.. جلبابه الممزق لا يكاد يستر جسده النحيل..توقف فجأة وأنحني ليمسك بقطة صغيرة تموء وأخذ يمسح على جسدها الصغير مناولا إياها قطعا صغيرة من الخبز أخرجها من جراب قماشي أسود يحمله على كتفه..
كان وديعا هادئا.. لا يستثيره في الكون شئ أكثر من مناداته قائلين ” يا عم فلفل”.. يلقي بجرابه على الأرض وينطلق حينها خلفنا كالسهم مطلقا أبشع الألفاظ كالحمم.. يقذقنا بقطع الطوب ونحن نولي من أمامه مدبرين في غمرة من الضحك الشديد.. ” حرام عليكوا يا عيال.. سيبوه في حاله.. ربنا يحفظ عليكم عقولكم”…يقول ” عم حامد” صاحب ” كشك” السجائر وهو يربت على كتفي ” عم إسماعيل” محاولا تهدئته وهو يلهث وينز عرقا.. يتناول بعدها زجاجة من المرطبات ويفتح جرابه مطمئنا على محتوياته ويعود مرة ثانية للسكون والطمأنينة..
لم نكن نعي حينها معنى أن يفقد المرء عقله.. لم نقدر عظيم فعلنا ونحن نلوح بيدنا نحو رأسنا بإشارة الخبل و الجنون.. لم نعلم السبب الحقيقي لما أصابه وألم به.. ” الأوجاع في الدنيا كتير قوي.. كل واحد ليه طاقة ووسع.. شكله شال فوق طاقته وحمله.. صدمة جايز.. ظلم ممكن.. حزن بالزيادة مش بعيد.. بيقولوا عليه كان إبن ناس قوي.. بس بقى صابه اللي صابه.. والله يا عيال لا العاقل فيها مرتاح.. ولا المجنون مرتاح.. اللي هيضايقه بعد كده والله ما هاسيبه.. سامع ياض منك له “.. قالها” عم حامد ” بجدية لم نعهدها.. تحولت الضحكات إلى وجوم ومشاعر ندم.. نظرنا صوب” عم إسماعيل ” كان يجلس على الرصيف وادعا والقطة الصغيرة تتقافز حوله.. بدا انه نسي كل شئ.. الذكري لعنة الإنسان والنسيان جنته وفردوسه الموعود..
السبت العاشر من” أكتوبر / تشرين أول ” عام ١٩٨١.. جنازة الرئيس الراحل ” أنور السادات”.. منطقة ” رابعة العدوية ” مطوقة بقوات الأمن ورجال الشرطة السرية.. ممنوع مغادرة المنازل أو حتى فتح النوافذ.. ” مناحم بيجين” رئيس وزراء ” إسرائيل” الأسبق سوف يأتي ماشيا على قدميه من فندق ” سونستا ” بشارع” الطيران” حتى مسيرة الجنازة عند ” المنصة ” ( طقوس العقيدة اليهودية تمنع ركوب المواصلات يوم السبت)…ظل” عم إسماعيل” مختفيا لبضعة شهور.. علمنا فيما بعد أنه تم القبض عليه صبيحة يوم الجنازة.. كان يسير وحيدا في الشارع الخالي مطلقا هتافه الأثير.. تحفظ عليه رجال الأمن .. لم يعد هناك مجال لمفاجآت جديدة..
ليلة ماطرة من ليالي” يناير / كانون ثان” عام ١٩٨٢.. وقفت أرقب قطرات المطر المنهمر من خلف زجاج النافذة.. وبينما أمسح بيدي بخار الماء المتجمع عليه.. لمحت ” عم إسماعيل” يسير مسيرته السرمدية المعتادة غاديا رائحا صائحا بكل قوته ” يا قوي على كل قوي يارب”.. لم يكن هناك جديدا في المشهد سوي إرتعادة لافتة أصابت يده اليمني.. وجسد مبلل بعد أن تمزق الجلباب أكثر فأكثر..عرج خفيف أبطأ من إندفاعه..بينما يمضي قط كبير من حوله غير مبالين بماء المطر.