“قل شكوتك”.. سيرة ذاتية مُزيفة

كتبت: أسماء خليل

“هاهي الحياة”.. ربما أكون مُنعَّمًا مرفَّهًا في نظر البعض، ولكنى بحق أعاني من أشياء تبدو لي مُتثاقلة المرور، وبها لا تستقيم حياتي كما ينبغي، ورغم كل محاولاتي في إخماد كل تلك الثورة الهائلة داخل نفسي، إلا أنني لم أستطع العبور.

أعتقد أن ما سبق هو مقدمة مناسبة لشكوى أرسلها الشاب “أ.ز”، عبر البريد الإلكتروني، راجيًا من الله تعالى أن يجد من يرشده إلى دروب أخرى في الحياة..ربما أسهل في الوصول.

الشكوى

حاولتُ كثيرًا.. ولكني لم أستطع فك طلاسم نفسي التي تجعلني أسير بالطرقات الأصعب في الحياة، فأنا “أ.ز”.. طالب بالفرقة الرابعة بكلية الصيدلة، أعيش بأحد مدن الوجه البحري، مع عائلتي المكونة من أبي الثري وأمي وثلاث أخوات تكبرنني.

نزوحًا من الريفِ إلى أحد أرقى أحياء المدن؛ حيث كان أبي يعيش بالقرية حتى تزوج وأنجب أخواتي البنات، وربَّاهن إلى سن المراهقة، ثم باع أرضه وأرض جدي التي ورثها عقِب وفاته، مُغيِّرًا مسار عمله من الزراعة إلى التجارة، وكم فتح الله عليه، فأصبح من الأثرياء، كنت أنا حينها بالثامنة من سنِي عمري.

تزوجت أخواتي الثلاث من رجال تمت الخطبة إليهن قبل نزوح أسرتنا للمدينة، وذلك بعد إتمام مراحلهن التعليمية، ما بين الحصول على مؤهل عالٍ أو متوسط.

حظيتُ بذكاء منحني الله – سبحانه وتعالى – إياه، ساعدني في التفوق بمراحل دراستي، وصولًا للالتحاق بكلية الصيدلة، ولكن مشاكلي الأسرية جعلتني لا أستمتع بمراحل دراستي منذ بضع سنوات.

تكمُن مُشكلتي في الطباع والسلوكيات التي عليها أبي بخاصة.. وأسرتي عامة، فحيال مرور أبي بأي مشكلة؛ أجده قد جمع بعض من رجاله بالعمل وهمَّ بضرب خصمه، هذا كمثل.

بالإضافة إلى معاملته وطريقة ملابسه، وأسلوب كلامه، فقد جاء للمدينة بطبعه الريفي ومخرج حروف كلماته، وطبيعته، وكذلك أمي، وأيضًا اكتسب من العمل بالتجارة محاكاة أبناء السوق.

وأمي رغم وضعنا المادي الذي نحظى به، ماتزال بكل ما تفعله من تصرفات وهيئة حتى المأكولات، وأزواج أخواتي الذين لا يختلفون كثيرًا عن حال أبي وأمي.

أرفض رفضًا تامًّا اصطحاب أحد أصدقائي إلى منزلنا رغم فخامته وأدواره المتعددة، إذ حدث بأحد المرات موقفًا لن أنساه طيلة حياتي، فبينما أقرب أصدقائي في رفقتي بأحد الأدوار العلوية بالمنزل؛ إذ باغتتني أمي بملابس ريفية وسلوكيات أحرجتني أمام صديقي، بالإضافة إلى أسلوب تعاملها معي.

وكذلك حال أبي، الذي لا أذكر أنني حاولت ملازمته بالخروج، أو الجلوس للتناقش معه، فهو لا يجيد التعامل مع الآخرين بشكل يحافظ به على مشاعرهم، إنه يعمق الحواجز بينه وبين مُحدثه، من أول جمله يتفوه بها.

ولم يختلف بعض أخواتي وأزواجهن وأولادهن كثيرًا عن أبي؛ إذ ليس باستطاعتي زيارة إحداهن، إلا وأعود مُثقلًا بالمشاعر والطاقة السلبية، أريدهن محاكاة الواقع، لا أقول التشبه بشكل تام بأولاد الذوات، ولكن تحسين المستوى الفكري ليتناسب مع المستوى المادي الاجتماعي الحالي.

تدور في رأسي صراعات.. مال وثراء.. عجرفة وطباع ريفية.. أشخاص أصبحت أتبرأ منهم بالهروب عنهم دون ارتحال، وتوسوس لي نفسي – بشكل دائم – أنني بِتُّ أكره جلباب أبي.

دائمًا أجلس في غرفتي، أذاكر أو أتصفح وسائل التواصل، أو أخرج، ولكني أبتعد عن أي شخص بالعائلة، لا أعلم كيف أعيش بتلك الغرفة التي اصطبغت بصبغة السجن؟!.

ماذا أفعل بحق الله، فأنا أشعر بالتيه رغم أن كل العناوين لم تتغير؟!.

الحل

عزيزي الصغير“أ . ز”.. كان الله بالعون.

قد يكون الفارق الزمني في بعض مراحل الحياة بيننا وبين الآخرين، هو معول البناء أو الهدم داخل طرقاتنا، ولكن في كل الأحوال علينا التكيف الذي لا فِرار منه.

لقد حملك أبواك إلي البيئة الجديدة منذ طفولتك، وحملوا هم طباع وصفات بيئتهم القديمة، كانت ولادتك في منتصف أو بعد أكثر من منتصف عمر أفراد أسرتك، فأصبحت تائهًا بين الاختلاف الفكري والثقافي والموروث الذي لم تستطع أسرتك تغييره.

تربيتَ أنت بأرقى أحياء المدن، أذهلك العالم من حولك بصخبه، وأفكاره المتلاحقة، وكذلك فِكرهِ الأكثر رقيًّا، وكان النصيب الأكبر لتشكيل شخصيتك يعود الفضل فيه لمدارسك الخاصة واصدقائك وحيك، وآثرت عمدًا الانتماء لهذه الكيانات أكثر من أسرتك، التي رأيتها منذ صغرك مختلفة عن العالم الخارجي..

لم تستطع رغم مرور السنوات مُحاكاة أو الرضا عما يفعلون من سلوكيات أو ما هم عليه من طباع، ففضلت الانطواء، وربما التنصل من ذلك الجانب، ولكنك ماتزال تريد الثراء والعز والحياة المُترفة رغم كل شيء.

عزيزي.. لا يمكن للمرء أن يُجزِّئ حياته إلى سلسلة حلقات، يشاهد وينقد كل المشاهد التمثيلية، ثم يحذف ما لا يتماشى مع الرقابة الداخلية التي وضع أسسها بنفسه، ويصنع سيرة ذاتية مُزيفة.

إنها الحياة.. نحاول أن نغير من أنفسنا نحن.. نقوِّم سلوكنا نحن.. نطمح ونحلم أحلامنا نحن.. وليس بيدنا أن نغير كل ما حولنا لتحلو لنا الحياة..

ربما أخطأ من عرَّف السعادة على أنها شعور الإنسان أن كل ما حوله على مايُرام، فإذا كان هناك بعض جزء أو أجزاء ليست على ما يُرام، فهذا يعني التعاسة.

ربما هناك مفهومًا آخر للسعادة، وهو أن يتكيف المرء مع كل الظروف من حوله ليصنع هو السعادة بنفسه، فاقتران السعادة بتحسن الظروف، هو من أكثر ما يظلم به المرء نفسه.

عليك أن تبر أنت أبواكَ، وإذا رأيت أي سلوك خاطئ عليك تعديله بكل هدوء وأريحية، لكي لا تحرم من حولك من جمال العلم وأثره على مُكتسبه، بعيدًا عن المظاهر التي لا تعدو عن كونها تكلفًا أحمقًا.

فماذا يعني أن يكون الرجل مُتمدنًا وقلبه يخلو من الجمال الداخلي؟!.. إن من حولك هم أسرتك التي احتوتك، ولم ترَ أيديهم الخفية التي جعلتك على أعتاب أعلى المناصب العلمية، فربما يعتقد المرء -في غفلةٍ – أنه صعد البناء دونما سُلَّم!..

تقبَّل أسرتك كما هي، بل حاول أن تكون مصدر سعادة للجميع، بما يصنعه الذكاء من حس فكاهي، حاول أن تساعدهم حين تعرض أحدهم لمشكلة، اندمج معهم وشارك برأيك ربما كلمة يكون لها تأثيرًا وتنتشل أحدًا من الوقع بالهاوية.

تقبَّل الواقع، وتذكَّر أنه هو الذي صنعك، ثم افتح كتب التاريخ وسير من علا شأنهم بالدنيا، ولاحظ أنهم لم يتنصلوا من واقعهم أو ماضيهم، فتلك هي المذيعة والمحاورة الأشهر على الإطلاق “أوبرا وينفري”، دائما ما كانت تذكر أن والدها كان عامل مناجم وحلّاق وفكره بسيط جدا، بل وأم خادمة بالمنازل، ولم تخجل من قول ذلك،

وباللهجة الفكرية لشباب اليوم، الذين يشغلهم أغلى وأشهر لاعبي العالم لكرة القدم، لم ينكر اللاعب العالمي “كريستيانو رونالدو” طبيعة عمل أمه وهويتها، بل إنه دائمًا يذكر بوسائل الإعلام أنها كانت خادمة بالبيوت وامرأة بسيطة جدًّا، والأكثر من ذلك أنه يطيعها طاعة عمياء.

عزيزي: لا تخجل من أبويك مهما حدث، ولا تُنكر أو تُجمل شيئًا بالكذب، وحاول التدرب على المزيد من الثقة بالنفس، حتى لا يشغلك ما يقوله العالم لك أو عنك، فلو كان انقيادك لمن حولك دون وعي، حتما ستروى عن نفسك يومًا سيرة مُزيفة.

منحكَ الله السعادة وراحة البال.

…………………………………………………………………………………………………..

راسلوني عبر الواتس آب 01153870926 و “قل شكوتك” وأنت مطمئن لعلى بعد الله أستطيع أن أخففها عنك.

اقرأ فى هذه السلسلة:

“ قل شكوتك ”.. لستِ مجرد مرحلة بحياة الآخرين

“قل شكوتك”.. تنازلات إرادية

زر الذهاب إلى الأعلى