رفعت رشاد يكتب: أرملة البحر المتوسط

بيان

“تضفرت فيها الحضارة الهللينية المادية مع الأفكار الروحية القادمة من الشرق، من بابل والهند، وظلت الإسكندرية منارة ومكتبة للعالم”.. هذه الإسكندرية التى كانت، فكيف أصبحت؟!.. يكشف الكاتب الكبير رفعت رشاد فى هذا المقال المنشور فى صحيفة “الوطن” الحال الذى وصلت إليه عروس البحر المتوسط.. وهذا نص المقال:

عشنا أزماناً طويلة نعرف أن الإسكندرية عروس البحر المتوسط، بل تغنَّى كبار المطربين وعلى رأسهم فيروز بالإسكندرية التى أخذت اسمها من أكبر غازٍ فى التاريخ، الإسكندر الأكبر، الذى احتل العالم ولم يكمل من العمر 32 عاماً.

(كانت) الإسكندرية مدينة عالمية كوزموبوليتانية يتجمع فيها العالم بكل أشكاله وثقافاته وجنسياته.

تصدرت الإسكندرية مدن البحر المتوسط فى الجمال والتناسق وتميزت بمجتمعها الهيللينى الذى استمر منذ أسّسها الإغريق منذ 2350 عاماً وحتى ثمانين عاماً مضت، مجتمع التنوير والعلوم والفلسفة.

بعدما دخل العرب الإسكندرية فى عام 642، كتب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب يقول: لقد استوليت على مدينة بها 4 آلاف قصر و4 آلاف حمام و400 مخزن وبها 12 بائعاً و40 ألفاً من اليهود دافعى الجزية.

كانت جدران مبانيها من الرخام الأبيض، فكتب ابن العاص يقول: إن ضوء القمر المنعكس على رخام جدرانها يجعل المدينة تسبح فى نور ساطع بدرجة تكفى لأى ترزى أن يلضم الخيط فى إبرته دون حاجة لمصباح، ولا يستطيع أحد أن يدخل المدينة دون أن يغطى عينيه ليحجب عنهما وهج الجص والرخام.

كانت المدينة ذات جمال أبهر هؤلاء البدو القادمين من الصحراء ولم يروا جمالاً بهذا الشكل والحجم.

وحتى فى القرن الرابع الميلادى بعد أن انتقل مركز العالم من روما إلى بيزنطة -القسطنطينية- على مضيق البوسفور، لم تكن المدينة الجديدة أو تأثيرها نداً للمدينة الأقدم فى البحر المتوسط التى تضفرت فيها الحضارة الهللينية المادية مع الأفكار الروحية القادمة من الشرق، من بابل والهند، وظلت الإسكندرية منارة ومكتبة للعالم.

ولم يبقَ الآن من الإسكندرية القديمة إلا -العمود- وهو الباقى من معبد السرابيوم العظيم، واختفت كل معالم المنطقة، ربما دُفنت تحت الأرض وربما حللها طمى النيل أو تم استخدام بقايا المعبد كمواد للبناء.

كانت الإسكندرية أهم الموانئ ومركزاً للتجارة فى البحر الذى شهدت شواطئه حضارات العالم القديم فراجت أحوالها وازدهر اقتصادها.

منذ أيام زرت الإسكندرية، لم تعد الإسكندرية عروس البحر المتوسط التى ظلت مصر تباهى بها العالم لقرون طويلة، وجدتها أرملة البحر المتوسط.

اعتقدنا لسنوات طوال أن الإسكندرية تطل على البحر، لكنى وجدتها خنقت بحرها وتمدد طوبها وأسمنتها على شاطئها ومات البحر أمامها.

من أسوأ الأشياء أن يوسد الأمر لغير أهله وقد تولى الإسكندرية مَن هم غير أهل لهذه المهمة العظيمة، مهمة إنعاش وإدارة مدينة بهذا الحجم. هل أقتل البحر مقابل بعض القروش تعود من تأجير الكافيهات على شاطئ بحر الإسكندرية؟!

ماذا لو كانت الإسكندرية فى دولة أخرى؟ هل كانت تعامَل بهذا الشكل؟ ما سمعته عن تدمير الشاطئ يتطلب تدخلاً عاجلاً، فالشخص أو الأشخاص المسئولون عن ذلك ارتكبوا جريمة كبيرة فى حق البلد، لكن هل سيحاسبون؟ وحتى لو حوسبوا، هل ستعود الإسكندرية عروساً مرة أخرى؟

كان جنكيز خان أحد أكبر الغزاة فى التاريخ، اكتسحت جيوشه قارات العالم القديم، جاء تتاره من أقاصى آسيا ووصلوا إلى أوروبا، دمروا فى طريقه أمما وحضارات وأسقطوا الخلافة العباسية العتيدة، لكنهم لم يؤسسوا إمبراطورية أو حتى دولة كما فعل الأتراك، لماذا؟ لأنهم مدمِّرون وليسوا معمِّرين، لأنهم عاشوا يعتقدون فى الغزو والصيد والعيش فى الخيام ولم يتركوا أى نوع من الثقافة أو العمارة واندثروا من بين صفحات التاريخ ولا يذكَرون إلا ببربريتهم.

إن الإسكندرية درة مدننا على البحر المتوسط وهى تستحق ما هو أفضل.

اقرأ أيضا للكاتب:

رفعت رشاد يكتب: عيد الجلاء

رفعت رشاد يكتب: عباقرة في كل زمان

زر الذهاب إلى الأعلى