عاطف عبد الغني يكتب: قليل من الفلسفة.. كثير من الإلحاد !
كانت الفلسفة اليونانية – الرومانية تسيطر على الفكر الأوروبى عندما انتقلت المسيحية من الشرق إلى أوروبا، (المسيح ولد وبشر فى فلسطين)، وفى البداية وقع الاضطهاد على رسل المسيح وأتباعه حتى جاء الإمبراطور قسطنطين قسطنطيوس أوائل القرن الرابع الميلادى ورفع الاضطهاد عن هذه الديانة وأتباعها لينقذهم وينقذ إمبراطوريته المضطربة.
دخول قسطنطين المسيحية وإعلان اعتناقه لها كان إيذاناً بعصر جديد سوف تنتشر فيه المسيحية فى مساحة كبيرة جغرافيا، لكن قبل الجغرافيا لابد أن نعرف التاريخ، والتاريخ يلخصه القاضى عبد الجبار بن أحمد الفقيه المصرى الذى عاش فى القرن الحادى عشر حين قال قولته البليغة الملخصة: «حين دخلت المسيحية روما لم تتمسح روما ولكن ترومت المسيحية».
(1)
ذهبت المسيحية إلى أرض الآلهة والأساطير والفلسفة اليونانية/ الرومانية التى شكّلت النموذج المعرفى الأول للعقل الأوروبى، ودخل الأباطرة والملوك فى حلف مع الكنيسة وباباواتها، وفى عصور تالية كانت فيها المادية مازالت هى المسيطرة على العقل الأوروبى بدأت النخب تبحث عن فلسفة تعيد للإنسان حقوقه وتنزع عنه إصره والأغلال، ولم يجدوا فى الدين ما يلبى هذه الاحتياجات بل العكس هو الصحيح فقد مثلت سلطة الكنيسة عائقاً كبيراً على حرية الفرد الأوروبى حين احتكرت لنفسها السلطتين الدنيوية أو الزمنية والروحية أو الدينية معاً، لكنها نقلت جزءاً من سلطتها للملوك فيما عرف بنظرية التفويض الإلهى وفى رحلة البحث عن الخلاص والانعتاق لم يكن من نجاة فى نظر فلاسفة عصر النهضة الأوروبية إلا باستلاب السلطة من الملوك والرؤساء ورجال الدين ومنحها للفرد المطلق.. للشعب أو الأمة، فقد كفر المضطهدون بجلاديهم من الملوك ورجال الأكليروس، وعرف القرن السابع عشر الإرهاصات الأولى لحقوق الإنسان ونظرياتها من خلال كتابات الفيلسوف الإنجليزى جون لوك حين عبر عن الروح الليبرالية التى سوف تتبناها الثورة الفرنسية فيما بعد.
ونادى لوك بالحقيقة المادية الملموسة بنت الوعى فلا توجد بنظره حقيقة خارجية مستقلة أو سابقة للتصور ولكن الحقيقة هى تلك فقط التى يستشعرها الفرد داخل وعيه أو ما يعتقده، وبناء على ذلك فالآراء كلها ذات قيمة، الصحيح منها والزائف.. إنها سيادة العقل الفردى حتى ولو رأى الخطأ صواباً أو الصواب خطأ، هذه هى الحرية التى تنفى كل معيار موضوعى للسلوك الفردى، وكما قال خطيب الثورة الفرنسية ميرابو – فيما بعد – الخطأ له حق مساو لما للصواب، ولا يجوز للقانون أن يتدخل فى مجال الحرية الفردية، أو يفرض عليه واجبات مسبقة تقيد حريته المطلقة، وقامت الثورة الفرنسية عام 1789 تنادى بهذا، وفى طريقها أطاحت بالسلطان المطلق للملوك والكنيسة الكاثوليكية لكنها أحلت محلهما ديكتاتوراً آخر هو الفرد والأمة التى تمثل مجموع الأفراد.
(2)
فى نفس العام الذى قامت فيه الثورة وبعد حروب سياسية وأهلية ونقاشات وضحايا بشرية أصدرت الثورة إعلان حقوق الإنسان رسمياً وأعلنت بشكل غير رسمى ميلاد ما عرف ب«المواطن الحديث» الذى يستمد سلطته السياسية من نفسه ومن فرديته، ورأى نقاد أن إعلان حقوق الإنسان ليس فى حقيقته إلا دستوراً لمجتمع من الآلهة.. فكل فرد من أفراد هذا المجتمع من حقه أن يقرر الحقيقة ويتخذ القرار، وذهب آخرون إلى أن مضمون الثورة الفرنسية الفكرى ما فعل إلا أن أحل الإنسان محل الله (!!)
(3)
«ولد الناس أحرارا ويظلون أحرارا ومتساويين فى الحقوق» هذه هى الكلمات الأولى فى البند الأول لإعلان حقوق الإنسان ثمرة الثورة، وفى نفس الإعلان تنص المادة الرابعة على أن الحرية هى أن يمارس الفرد كل ما يحلو له بشرط ألا يكون فى ذلك ضرر للآخرين، والمعنى أنه لا حدود لممارسة كل إنسان للحقوق الطبيعية، وأن هذه الحدود الطبيعية يحددها القانون الوضعى فقط وليس أى قانون آخر سابق أو معيار أخلاقى ولا شأن للقانون بالمضمون الداخلى لهذه الحريات ولكنه (القانون) يضبط فقط معيارها الخارجى أو علاقاتها بحريات الآخرين، لكن تبقى حرية كل فرد مطلقة فى عالمها الداخلى، وكل مالا يحرمه القانون (الوضعى) لا يمكن منعه أو إجبار أحد على فعله، وفى المادة الخامسة من الإعلان أنه ليس للقانون الحق فى أن يمنع غير الأعمال الضارة.
بمعنى إذا اتفق المجتمع أنه لا مانع من زواج المثليين فليكن هذا.. لأنه فى نظر الليبرالية اختيار حُر مبنى على إرادة بين طرفين لا يضران بفعلتهما الآخرين فى شىء، والآن هناك قوانين تندرج تحت بند حقوق الإنسان ترتب مثل هذه الزيجات قى أوروبا وفى تطور آخر هناك كنائس تبارك هذه الحرية وتخلع عليها القداسة.. وعندما نذكر هذا فالإخوة والأصدقاء الليبراليون غالباً ما يغضبون متسائلين: أليس لديكم إلا هذه الأمثلة المقرفة لممارسة الحرية؟!
والإجابة: بالطبع هناك أمثلة أخرى أكثر قرفاً عانينا نحن منها حين خرج علينا أدعياء الفن يشوهون قداسة الأنبياء والمرسلين برسوماتهم المسيئة وخيالاتهم المريضة ليس فقط ما يتعلق بإنتاجهم الذى يتناولون فيه رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ولكن أيضاً رسول المسيحية عيسى بن مريم سلام الله عليه وغيره من رسل الله.
ولابد أن نثبت هنا أن تعريف الحرية التى كرّسها إعلان حقوق الإنسان هو إنها إرادة النفس الحسية عندما تنطلق بلا حدود وفى هذه الحالة فقط يمكن أن نقرر أن جوهر الإنسان قد تحول إلى مادة منزوعة من الروح أو أن الروح صارت جزءاً من الجسد وليست حقيقة مستقلة عنه.
(4)
هذه الرؤية المادية للإنسان فى إعلان حقوق الثورة الفرنسية هى ثمرة التطور العقلى الذى مرت به الشعوب الأوروبية كما أسلفنا، لكن د. أحمد باسل نور الدين الرفاعى أستاذ الحقوق فى جامعة مؤتة يضيف على هذا موضحاً أن الإعلان تعامل مع الإنسان بوصفه حيواناً سياسياً وفى هذا تلتقى فلسفة الثورة مع الفكر الإغريقى القديم، والحقيقة القانونية التى تقررها الإرادة العامة (الشعب) تتجذر فى غرائز هذا الحيوان السياسى، وبناء عليه فلا محل للدين فى هذا المجتمع السياسى الذى أقامته الثورة.
ويضيف د. الرفاعى شارحاً أنه من سوء الفهم بل من السطحية أن نتوهم أن علمانية الدولة التى كرسها إعلان حقوق الإنسان يقتصر على فصل الدولة عن الكنيسة، إنها لا تطرد السلطة الروحية وحدها من حياة المجتمع السياسى بل وتطرد معها وقبلها الحقيقة الدينية نفسها، فليست هناك حقيقة خارج الوعى.
ويقول أيضاً: إذا كان «ديكارت» قد هدم هدماً جذرياً ثنائية العقل والحقيقة (الحقيقة صارت هى العقل) وافتتح الطريق المباشر إلى الديمقراطية الحديثة وإلى الثورة الفرنسية فإن «هيجل» قد كشف المغزى النهائى لهذه الأحادية.
فالله والإنسان هما عند هيجل حقيقة واحدة تكمن فى الغريزة الحسية، وفلسفة الثورة التى عبر عنها إعلان حقوق الإنسان كانت إذن فلسفة إلحادية وإن لم تصرح بالإلحاد، ففى مفاصل هذا النظام كان الإلحاد مثل الماء الذى يمشى فى جذور الشجرة (الفرد، الإرادة العامة، القانون).
وفى هذا النظام الجديد لم يكن هناك صوت يتكلم عن خلود الروح ووجود الله ويدعو إلى الفضيلة المطلقة.. لقد أسقطت الثورة الفرنسية الإله من عليائه واستبدلت به الإنسان وحريته وغرائزه ولذاته.
………………………………………………………………………………………………………….
هذا المقال نشر في مجلة أكتوبر بتاريخ (24 – 02 – 2013)