العقل والجسد في الفكر الفلسفي (1 – 3).. أفلاطون

سردية يكتبها: محمد جادالله

 

إن مفهوم العقل من المفاهيم الفلسفية التي ثار حولها جدل كبير وتساؤلات عديدة حيث اختلف الآراء حول المفهوم وفقاً للنسق الخاص بكل فيلسوف، مما يفسر وجود العديد من التعريفات المختلفة للعقل.
ولكل من أفلاطون وأرسطو نظرية في العقل، هي نظرية في المعرفة، بالإضافة إلى أن أفلاطون وأرسطو من أوائل الفلاسفة الذين أعطوا العقل معنًا واضحًا. فقد عبر كل منهما عن العقل بتلك القدرات العقلية العليا من تخيل وتذكر وتجريد وتعميم ومقارنة واستدلال واستنباط وحدس وتأمل، مميزين في ذلك بين العقل وقدراته وبين الظواهر النفسية التي تتمثل في الإحساس والرغبات والانفعالات والعواطف والإرادة (1).
كما اقترنت فلسفة ديكارت بالاتجاه العقلي من الحقبة الحديثة اقتراناً شبه بالترادف الفكر المتضمن (ديكارت أو الفلسفة العقلية)، ويعود السبب في ذلك إلى الطابع العقلي في مجمل فلسفته.
انطلاقًا من هذا، يجدر بنا بيان العلاقة بين العقل والجسد ابتداء من أعلام الفكر اليوناني (أفلاطون – وأرسطو) مستعينًا بهما كخلفية كلاسيكية، ثم الانتقال للعصر الحديث تحديدًا رينيه ديكارت باعتباره أبو الفلسفة الحديثة ومُشيد صرح العقلانية، لذلك سيكون عرضنا لهذه العلاقة مقسمًا على ثلاثة أجزاء، الجزء الأول نتناول فيه أفلاطون – وهي الدراسة التي نحن بصددها الآن – اما الدراسة الثانية وهي الجزء الثاني لموضوعنا ستتناول أرسطو، والثالثة والأخيرة ستتناول ديكارت. حتى يتثنى لنا الوقوف على فهم صحيح ودقيق للعلاقة بين العقل والجسد.
كان أفلاطون (2) من أوائل من اهتموا بالبحث في مسألة المعرفة Knowledge لذاتها، فقد عرض موضوع المعرفة في محاورات كثيرة، ووجد أفلاطون نفسه بين رأيين متعارضين رأي “بروتاجوراس” ومن سلك مسلكه من السفسطائيين الذين يردون المعرفة الإنسانية إلى الإحساس الفردي، ويكمن ذلك في عبارة بروتاجواس المشهورة “الإنسان مقياس كل شيء” ومعني هذه العبارة أن ما يبدو لي حق فهو حق بالنسبة إلي، وأن ما يبدو لك حق فهو حق بالنسبة إليك وهكذا أي أن الحقيقة تبعاً لهذا الرأي تكون نسبية أو لا توجد حقيقة عامة او معرفة عامة. أما الرأي الآخر فهو رأي “سقراط” Socrates الذي كان يري أن العقل Mind قادر علي تحصيل المعرفة، ويمكنه أن يصل إلى إدراك حقائق الأشياء (3).
وقد ذكر أفلاطون في محاورة ثياتيتوس theaetetus وهي الخاصة بالمعرفة، النقد الذي وجهه إلى النظرية السفسطائية في النقاط التالية (4):
1- القول بأن المعرفة هي الإدراك الحسي، هو نظرية بروتاجوراس والسفسطائيين. وهي تذهب إلى أن ما يبدو لكل فرد، على أنه حقيقي يكون حقيقياً بالنسبة لذلك الفرد. غير أن هذا على أي حال، زائف في التطبيق على حكمنا بصدد الأحداث المستقبلية، فالأخطاء العديدة التي يرتكبها عن المستقبل تظهر هذا. وبصفة عامة ما يبدو لكل فرد على أنه الحقيقة عن المستقبل، لا يصبح هكذا عندما تقع الأمور (5).
2- الإدراك الحسي يؤدي إلى انطباعات متناقضة، فكيف نتخذ الحواس سبيلاً إلي العلم. لكن إذا كانت المعرفة هي الإدراك الحسي، إذن فلن يكون لنا حق إعطاء أفضلية للإدراك الحسي على حساب إدراك حسي آخر، فإذا كانت الإدراكات الحسية كلها هي المعرفة، إذن فإنها كلها حقيقة (6).
3- لو كانت الحواس هي مقياس الحقائق، لاشتاك الحيوان مع الإنسان في إدراك الحقيقة.
4- هذا الرأي يجعل من كل معرفة وكل بحث وكل برهان وكل تفنيد أمراً مستحيلاً. اما المناقشة والبرهان، فإن الجدال بين شخصين عن أي شيء يتضمن أنهما يؤمنان بوجود حقيقة موضوعية.
5- إن نظرية بروتاجوراس تناقض نفسها، لأن بروتاجوراس يعترف بأن ما يبدو لي حقيقا فهو حقيقي. لهذا فإذا بدا لي حقيقاً، أن مذهب بروتاجوراس زائف، ويجب على بروتاجرواس نفسه أن يتعرف بذلك.
6- القول بهذه النظرية لا يجعل، فاصلاً بين الحق والباطل، فكل شيء حق وباطل في آن واحد.
7- لا يخلو إدراك كائناً ما كان من عنصر خارج من عمل الحواس، فإذا قلت مثلاً: هذه الورقة بيضاء، فقد تظن أن هذا إدراك جاءك عن طريق الحواس وحدها.
وقد تناول أفلاطون مشكلة المعرفة ونظريتها في هذه المحاورة. فبدأ بمسألة حد العلم، وعرض من خلالها لرأي فلسفي ذهب إليه بعض السفسطائيين على الخصوص، حيث إن العلم هو ثمة الحس والظاهر، كما قال “بروتاجواس” عبارته الشهيرة التي ذكرنها سابقاً (7). فبعد أن اوضحنا موقف أفلاطون من بروتاجوراس وسقراط، فإننا سنتناول الأساس الذي أقام عليه أفلاطون نظريته في المعرفة.

أولاً: نظرية المثل ἰδέαι:

نظرية المثل، هي التطور الطبيعي للمذهب السقراطي للمفاهيم. فالمعرفة، بوصفها متميزة عن الرأي، هي معرفة الحقيقة. فمن تعاليم سقراط “أنه من أجل أن تعرف شيئا من الضروري والكافي أن يكون لديك مفهوم هذا الشيء”. ولذلك، فإن المفهوم، أو بمعني آخر الفكرة، هو الحقيقة الوحيدة. وإنكار أن الفكرة هي حقيقة واقعة هو إنكار إمكانية المعرفة العلمية (8).
لا شك في أن نظرية المُثل تكون نقطة الانطلاق وحجر الزاوية لفلسفة أفلاطون بجملتها. وهي ناتجة عن استخدام الاستقراء السقراطي والجدل الأفلاطوني (9).
كما ان نظرية المُثل هي عصب الفلسفة الأفلاطونية، أي أنه لا يمكن فهم أي جزء من اجزاء الفلسفة الأفلاطونية إلا بالرجوع إليها (10). ويقول أفلاطون أن نظرية المثل هي التفسير الوحيد للقيمة الموضوعية للمعرفة العلمية. (11).
وهي نظرية أتي بها أفلاطون، ويعني بها ما قبل العالم الحسي أو المادي، يكون فيه الإنسان علي علم بجميع العلوم والخفايا، وعند ذهابه إلى العالم الحسي أو المادي (أي حينما يولد) ينسي كل ما تعلمه، وما عليه إلا أن يتذكرها في العالم الحسي. يقول أفلاطون أن نظرية المثل هي التفسير الوحيد للقيمة الموضوعية للمعرفة العلمية. بمعني آخر، كما في فيليبوس (12) انه يستمد عقيدة الأفكار من فشل هيراقليطس والمدرسة الإليلية لشرح الكينونة والصيرورة (13).
والسؤال الآن، كيف عرفنا هذه المُثل؟ يجيب أفلاطون على هذا التساؤل في محاورة “مينون”، فيقول إن شيئاً من التأمل يدلنا على أننا نستكشفها في النفس بالتفكير. لأن النفس كما قال أفلاطون في محاورة “فايدروس”، كانت قبل اتصالها بالبدن في صحبة الآلهة ثم ارتكبت أثماً فهبطت إلى البدن فهي إذا أدركت المُثل بالحواس تذكرتها (14).
أ- مصادر نظرية المثل الأفلاطونية (15)
أول هذه المصادر هي الآراء الفيثاغورية، حيث إن الفيثاغوريين قد انصرفوا عن البحث في “المادة” التي تتكون منها الأشياء وعنوا بتحديد النسبة الهندسية الواضحة في العقل، وانتهوا في ذلك إلى اعتبار أن العدد أو الشكل الهندسي هو حقيقة الشيء.
أما المصدر الثاني فهو هيراقليطس الذي كان أول من نبه إلى أن العالم المحسوس إنما يتميز بالتغير والسيلان الدائم. والمصدر الثالث الذي أستند إليه أفلاطون في نظريته عن المُثل؛ كان بارمنيدس أول من ميز بين طريق الحق، وطريق الظن δόξα، وكان أول من كشف عن أنه لا توجد أي حقيقة في هذا العالم المادي المحسوس، وهنا أدرك أفلاطون أن ذلك الوجود الحق هو الوجود المعقول وانه لا يمكن أن يكون محسوساً أو متغيراً.
اما المصدر الرابع فهو المصدر السقراطي، الذي قال إن نظرية المُثل ليست نظرية أفلاطونية، بل انها نظرية سقراطية، ثم جاءت آراء تدلل على هذا الرأي وتبرهن على أن نظرية المثل نظرية سقراطية وليست أفلاطونية. ولكن رد نظرية المثل إلى سقراط فيه مبالغة شديدة. حتى جاء أرسطو وأعلن أن نظرية المثل اختراع أفلاطوني وليس سقراطي.
ب- خصائص نظرية المثل (16)
1- أن “المثال” هو الجوهر الثابت للشيء، وهو الوجود الكلي، فهو مصدر حقيقة الشيء.
2- إن “المُثل” كلية؛ فالمثال ليس أي شيء جزئي.
3- إن “المُثل” أفكار، ولكنها الأفكار التي تمثل حقيقة الأشياء.
4- إن كل “مثال” وحدة قائمة بذاتها.
5- إن “المُثل” ثابته وغير فانية، فجوهر أي شيء يظل ثابتاً.
6- “المُثل” ماهيات الأشياء جميعاً.
7- كل “مثال” هو في نوعه كمال مطلق، وكماله هو عين حقيقته.
8- إن “المُثل” مفارقة أي توجد خارج المكان والزمان.
9- إن “المُثل” عقلانية أي أنه يتم معرفتها عن طريق العقل.
علاوة على ذلك فإن نظرية أفلاطون في المُثل تقوم على وجود عالم ثابت، هو العالم المعقول. فوق العالم المتغير وهو العالم الحسي، هذه الصورة الموجودة في العالم المعقول تتصف بالثبات والضرورة والكلية، تماماً كالأحكام العقلية عند الفلاسفة العقليين الذين جاءوا بعده (17).
وما تؤدي إليه نظرية المُثل وتريد الوصول إليه، هو أننا بحواسنا وقيود بدننا وحدد واقعنا المادي، نعيش في عالم من المظاهر بعيد كل البعد عن الحقائق المطلقة، حيث عالم المثال أو الصور – هذا العالم المشرق الذي يشبه في وضوحه ضوء الشمس (18).
ومما هو جدير بالذكر أن نظرية المُثل، هي مركز كل الفكر الأفلاطوني. لجدلية فهو مذهب فكرة في حد ذاته، فمثلاً: الفيزياء هي مذهب فكرة يحتذى بها في الطبيعة، أو الأخلاق هي مذهب فكرة يحتذى بها في العمل الإنساني. لذلك يتم دراسة نظرية المُثل تحت عنوان الجدل (19).

ثانياً: نظرية التذكر ἀνάμνησις:

يري “أفلاطون” أنه يوجد عالم روحي قبل وجود هذا العالم الذي نعيش فيه، وان النفس موجودة فيه وتحيط بجميع العلوم، وأن النفس هبطت في الجسم عقاباً لها علي خطيئة ارتكبتها فنسيت هذا العالم بعد اتحادها بالجسم “المادة”، ولكنها لم تفقد كل صلاتها به، بل بقيت منه أشعة تسطع فيها من حين لآخر بواسطة ظلال هذا العالم التي تتعاقب أمام الحواس في الحياة، فإذا شعرت النفس في التعليم علي الطريق الصحيح ينفتح بصرها فتتذكر ما رأته في حياتها السابقة، وهو ما يدعي عندنا “التعليم”، وما هو في حقيقة الأمر إلا “التذكر”؛ أي رجوع النفس إلي أصلها واتصالها بعالمها الذي منه هبطت وإليه تعود(20).
وهذه النظرية ترتكز على قضيتين فلسفيتين:
إحداهما أن النفس موجودة قبل وجود البدن في عالم أسمي من المادة. والأخرى أن الإدراك العقلي عبارة عن إدراك الحقائق المجردة الثابتة في ذلك العالم الاسمي، والتي يصطلح عليها أفلاطون بكلمة (المُثل). وكلتا القضيتين كما اوضح ذلك ناقدو الفلسفة الأفلاطونية؛ فالنفس في مفهوما الفلسفي المعقول ليست شيئاً موجوداً بصورة مجردة قبل وجود البدن، بل هي نتاج حركة جوهرية في المادة. كما أن الادراك العقلي يمكن إيضاحه مع إبعاد فكرة المُثل عن مجال البحث بما شرحه أرسطو في فلسفته: من أن المعاني المحسوسة هي نفسها المعاني العامة التي يدركها العقل بعد تجريدها عن الخصائص المميزة لأفراد واستبقاء المعني المشترك (21).
إذاً، نظرية الاستذكار الأفلاطونية هي النظرة القائلة إن الإدراك عملية استذكار للمعلومات السابقة، وقد ابتدع أفلاطون هذه النظرية وأقامها على فلسفته الخاصة في المُثل وقدم النفس الإنسانية (22).

ثالثاً: المعرفة عند أفلاطون:

وبناء على نظريته في المثل يبني أفلاطون نظريته في المعرفة، بالإضافة إلى اعتباره أن الوجود الحقيقي هو وجود المُثل وأن الوجود المحسوس هو وجود مزيف، وبهذا تكون المعرفة الحقيقية هي المعرفة التي تدرك المعقولات، وبالتالي فإن الأداة المعرفية الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها للوصول إلى العلم هي العقل، أما الحواس فلا تصل بنا إلا إلى الوهم والزيف، إذن العقل هو الذي يرقى إلى هذه المعرفة فوحده الذي يستطيع التوصل إلى هذه المعرفة.
كما وصف أفلاطون المعرفة بأنها “اعتقاد مبرر وصحيح” حيث يجب على الإنسان لكي “يعرف” شيئاً ما أن يكون موضوع ذلك الشيء صحيحاً في ذاته، وأن يحوز الإنسان تبريراً منطقياً سليماً لمعرفة صحة ذلك الموضوع، حيث يشترط ذلك التعريف تحقق ثلاثة شروط لكي يطلق القول بمعرفة أطروحة ما: أن تكون تلك الأطروحة صحيحة ومبررة، وأن يكون الإيمان بصحتها مبرراً كذلك (23).
وقد قسم أفلاطون المعرفة إلى مراتب: فأدناها الخيال الحسي الذي تبتدئ فيه خيالات الأشياء وظلالها ومظاهرها، كمظهر الحصان أو السرير، وأرقى من المرتبة السابقة مرتبة الإدراك النوعي للموجودات، كماهية الحصان أو المنضدة، وأسمى منها مرتبة الكلية ومعرفة الصور الثابتة الخالدة (24).
بالإضافة إلى ذلك نجد أن أفلاطون أسس الفلسفة المثالية وعرف الفلسفة بأنها السعي الدائم لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة التي تستخدم العقل وسيلة لها وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها (25).
أ- مناهج المعرفة
فالمنهج عند أفلاطون، يعني به ذلك التقسيم المنطقي الذي يوصل المرء (الإنسان) عبر المقاربة إلى اكتشاف المعاني الأساسية المجردة.
أما المناهج التي أستخدمها أفلاطون في الوصول المعرفة، هي، الجدل Dialectic بنوعيه والمنهج الفرضي. والجدل هو المنهج الذي يرتفع به العقل من المحسوس إلى المعقول دون أن يستخدم شيئاً حسياً، بل بالانتقال من معان إلى معان بواسطة معان ويعرف أيضاً بأنه العلم الكلي بالمبادئ أو الأصول الأولي والأمور الدائمة يصل إليه العقل بعد العلوم الجزئية ثم ينزل من إلى هذا الأساس منهج وعلم، يجتاز جميع مرتب الوجود من أسفل إلي أعلي وبالعكس (26).
وينقسم الجدل إلى نوعيين:
– (الجدل الصاعد) الذي ينطلق من الواقع الملموس ليصل إلى مفهوم الخير.
– (الجدل الهابط) الذي ينطلق من مفهوم الخير المجرد ليعود إلى الواقع الملموس.
أما المنهج الفرضي: أشار له أفلاطون لأول مرة في محاورة مينون (الفقرة 87)، وهذا المنهج يستعمله أفلاطون للصعود بواسطته من المشروط إلى الشرط دون أن يبرهن على صحة الشرط او يثبت إمكان تحققه (27).
ويحدثنا أفلاطون عن المنهج الفرضي فيقول: “وما أقصده بالبحث الفرضي هو أنه علي مثال الطريقة التي كثيراً ما يستخدمها أهل الهندسة في فحص المسائل، فعندما يسألهم سائل عن أحد الأشكال مثلاً، وعما إذا كان يمكن ادراك هذه الدائرة في هذا الشكل المثلث، فإن الإجابة تكون: “انا لا أدري بعد أن كان هذا الشكل هو علي هذه الخاصية، ولكني أعتقد أنه سيكون من المفيد من أجل الوصول إلي حل أن نضع فرضاً ما مثل هذا: إذا كان هذا الشكل هو علي نحو بحيث أنه إذا طبق علي الخط المحدد من الدائرة فإنه يكون أقصر بمسافة مماثلة لتلك التي طبقت، فإني أي استنتاج هذه النتيجة، أو تلك المختلفة عنها إذا لم يكن ممكناً له أن يون علي تلك الحالة. وبعد وضعنا لهذا الفرض فإني أقبل أن أقول لك النتائج فيما يخص وضع هذا الشكل في الدائرة، أن كان ممكناً أم لا”(28).
ب- درجات المعرفة (29)
1- الحس: إنما يدر عوارض الأجسام واشباحها ولا يصل أبداً إلى إدراك حقيقتها.
2- الظن: يعني الحكم علي المحسوسات بما هي.
3- الاستدلال: يعني علم الماهيات الرياضية المتحققة في المحسوسات.
4- التعقل: يعني إدراك الماهيات المجردة من كل مادة.
ثم أتجه أفلاطون بعد ذلك إلي نقد المعرفة الحسية (النسبية)، لأنه لو كان الأمر كذلك لصححنا الأحاسيس التي تصاحب الأحلام والأمراض والجنون (30).
وما يقصده أفلاطون هنا هو أننا لا ندرك بالحواس وإنما من خلال الحواس، فالعقل يتعامل مع الحواس كما لو كانت آلات او معابر تمر منها المعطيات الحسية.
ثم نقد أيضاً المعرفة الاستدلالية، فكان أفلاطون ينظر إلى المعرفة البرهانية الرياضية على أنها مجرد درجة من درجات المعرفة اليقينية ولنها ليست اليقين الكامل وعلى المرء أن يتجاوزها.

رابعاً: تعريف العلم:

قدم أفلاطون في محاورة ثياتيتوس عدة تعريفات للمعرفة أو العلم الصحيح، ولكنه بعد استعراضه ومناقشته لها يعترض عليها وتبدو المحاورة وكأنها تنتهي إلى نتيجة سلبية لا يصل فيها إلى تعريف مقنع.
وتكون التعريفات الثلاثة للعلم المذكورة في هذه المحاورة أقسام المحاورة الرئيسية، وخلاصة هذه التعريفات ثلاثة أن العلم إحساس، وأن العلم هو حكم صادق، وأن العلم هو حكم صادق أو ظن صادق مصحوب بتفسير عقلي أو ببرهان (31).
وهنا نكون قد أنهينا الجزء الأول من موضوعنا، على أن تكون الدراسة اللاحقة تتناول مفكر آخر وفيلسوف مكمل لهذه الفكرة وهو أرسطو طاليس.

…………………………………………………………………………………………..

الهوامش:

(1) محمود فهمي زيدان، في النفس والجسد (بحث في الفلسفة المعاصرة)، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، 1977م، ص 27 – 28.
(2) أفلاطون (باللاتينية: Plato) (باليونانية: Πλάτων) (عاش 427 ق.م – 347 ق.م) هو ارستوكليس بن ارستون، فيلسوف يوناني كلاسيكي، رياضياتي، كاتب لعدد من الحوارات الفلسفية، ويعتبر مؤسس لأكاديمية أثينا التي هي أول معهد للتعليم العالي في العالم الغربي، معلمه سقراط وتلميذه أرسطو. وضع أفلاطون الأسس الأولى للفلسفة الغربية والعلوم، كان تلميذاً لسقراط، وتأثر بأفكاره كما تأثر بإعدامه الظالم. ظهر نبوغ أفلاطون وأسلوبه ككاتب واضح في محاوراته السقراطية (نحو ثلاثين محاورة) التي تتناول مواضيع فلسفية مختلفة: نظرية المعرفة، المنطق، اللغة، الرياضيات، الميتافيزيقا، الأخلاق والسياسة.
يغلب على مؤلفات أفلاطون طابع المحاورة وهو أسلوب كان شائعاً في العصر الذي ازداد فيه نشاط السفسطائيين وسقراط. إلا أن أفلاطون أول فيلسوف يوناني وصلتنا جميع مؤلفاته، وهم كما يلي:
– الدفاع عن سقراط. – لاخيس (حوار حول الشجاعة).
– خارمنيدس (حوار حول المثابرة). – أيتيفرون (حول التدين).
– بروتاجوراس (حول الفضيلة). – جورجياس (في نقد الأنانية).
– كراتيل (حول اللغة، والهيراقليطية والاسمية). – مينون (حول إمكانية تعلم الفضيلة).
– فايدروس (توضيح العلاقة بين الروح والفكرة). – تياتيتوس (حول المعرفة).
– بارمنيدس (توشيح المنهج الجدلي). – السفسطائي (حول الوجود).
– فيليب (حول الخير، والعلاقة بين اللذة والحكمة). – تيمايوس (فلسفة الطبيعة).
– القانون (يعرض فيه إضافات لنظريته حول الدولة المثالية). – فيدون (حول خلود الروح).
أنظر: أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، 1998م، ص 155 – 158.
(3) شريف مصباح محمود، المعرفة والألوهية عند أفلاطون وأرسطو وأثرها على العلاف والفارابي، الهيئة المصرية العالم للكتاب، القاهرة، 2015م، ص 97.
أنظر أيضاً: عبد الستار مختار نصار، دراسات في الفلسفة اليونانية، المنصورة، بدون تاريخ، ص 122 – 123.
(4) ولتر ستيس، تاريخ نقدي للفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار كلمة، 2008م، ص 142 – 144.
(5) أفلاطون، ثياتيتوس، ترجمة: أميرة حلمي مطر، دار غريب، القاهرة، 2000م، فقرة 152.
(6) المصدر السابق، الفقرة 160.
(7) إلياس بلكا، الغيب والعقل (دراسة في حدود المعرفة البشرية)، الطبعة الأولي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2008م، ص 17.
TURNER, William, History of philosophy, Boston – London, 1903, P. 99. (8)
(9) حنا الفاخوري – خليل الجر، تاريخ الفلسفة العربية، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، دار الجيل، بيروت، 1993م، ص 71.
( 10) مصطفي النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي (السفسطائيون – سقراط – أفلاطون)، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2015م، ص 215.
(11) Ibid, p. 98.
(12) فيليبوس (باليونانية: Φίληβος): هو أحد الحوارات السقراطية الباقية والذي كتب في القرن الرابع قبل الميلاد والذي كتبه الفيلسوف الإغريقي أفلاطون. المتحدث الرئيسي في الحوار هو سقراط، والمتحدثون الآخرون هم فيليبوس وبروتارخوس. https://ar.wikipedia.org/wiki/

(13) Ibid, p 99.
(14) أفلاطون، مينون، ترجمة: عزت قرني، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2001م، ص 61 – 63.
(15) مصطفي النشار، مرجع سابق، ص 216 – 217.
(16) المرجع السابق، ص 219 – 221.
(17) يحيي هويدي، مقدمة في الفلسفة العامة، دار الثقافة، القاهرة، 1989م، ص 138.
(18) محمد كمال إبراهيم جعفر، في الفلسفة والأخلاق، دار الكتب الجامعية، القاهرة، 1968م، ص 95 – 96.
(19) William TURNER, History of philosophy, Op. cit., p. 98.
( 20) أحمد السيد علي رمضان، الفلسفة اليونانية عرض ونقد، الطبعة الثانية، المجموعة الاستثمارية العالمية، القاهرة، 2012م، ص 115 – 116.
( 21) محمد باقر الصدر، فلسفتنا، مرجع سابق، ص 100 – 101.
( 22) المرجع السابق، ص 57.
(23) john burnet, early Greek philosophy (Thales to Plato), London, 1924, P. 197.
(24) محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار نهضة مصر، القاهرة، 1997م، ص 31.
(25) ماجدة طه، مدخل إلى الفلسفة العامة، القاهرة، بدون تاريخ، ص 20.
( 26) حربي عباس عطيتو، اتجاهات التفكير الفلسفي عند اليونان (العصر الهلليني)، أورينتال، الإسكندرية، 2008، ص 383 – 384.
( 27) شريف مصباح محمود، مرجع سابق، ص 111.
( 28) أفلاطون، مينون، مصدر سابق، فقرة 86 هــ – 87 ب.
( 29) محمد عبد الحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، المجلد الأول، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، ص 122 – 124.
(30) إلياس بلكا، مرجع سابق، ص 17.
(31) أفلاطون، ثياتيتوس، مصدر سابق، ص 11، من مقدمة المترجمة

زر الذهاب إلى الأعلى