إسلام كمال يكتب: كيف وصل هذا العميل للحكم؟!

رغم وفاته منذ ثلاثة أشهر، إلا إنه سيظل رمزا مهما لتخريب “الرؤساء العملاء”، أو “العملاء الرؤساء” لدولهم .. إنه ” العميل الرئيس الأشهر ميخائيل جورباتشوف” آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، وصاحب أنجح عملية للمخابرات الأمريكية في التاريخ، والذي وصل لسدة الحكم في الاتحاد السوفيتي في فترة غامضة، انتهت بتفكيكه.

وحتى نعرف تفاصيل هذا “العميل الرئيس”، يجب أن نخوض في كواليس وصوله للحكم، التى دمرت المعسكر الشرقي في النهاية، حتى نواجه بشكل أو آخر تكرار هذه الأمثلة الخائنة في أى مكان حول العالم.

منذ وصول جورباتشوف إلى سدة الحكم وحتى استكمال مهمته التى نفذها لصالح مشغليه في المخابرات الأمريكية يوم 24 ديسمبر 1991، ونترك للقارئ الحكم بنفسه.

بدأ العميل الرئيس أولى خطواته رئيسا للحزب في مقاطعة “ستافروبل” جنوب الاتحاد السوفيتي، حيث المنتجعات الصحية الدافئة والمصايف الجميلة، مما جعله على علاقات مباشرة مع قيادات الحزب والدولة، حتى أنهم بعثوا بتوصياتهم إلى رئيس المخابرات آنذاك، بتعيين جاربتشوف رئيسا لإحدى دوائر الجهاز.

وجاء رفض رئيس المخابرات الجنرال “سيمي تشاسني” رفضا قاطعا لجميع التوصيات، لما لديه من تحفظات دون إثباتات قاطعة، بعد أن تزايدت الشبهات من زيارات جورباتشوف المتكررة خارج الاتحاد السوفيتي، خلال ترؤسه جمعية مشبوهة للمحافظة على البيئة السوفيتية.

وفي نهاية السبعينات، توفي مسؤول الزراعة في الحزب في ظروف غامضة، وتم تعيين (بلدياته) ميخائيل جورباتشوف سلفا له، الذي سرعان ما أصبح عضوا في المكتب السياسي.

وعلى الفور، طلب جورباتشوف نقل سفير الاتحاد السوفيتي في كندا “الكسندر ياكفلف” للعمل معه.

وهذا الشخص معروف وفق تقارير المخابرات السوفيتية عنه منذ سبعينات القرن الماضي، بأنه قد تم تجنيده من قبل السي آي آيه، عندما أُرسل للدراسة في جامعة كولومبيا عام 1959، بصحبة أحد عملاء المخابرات السوفيتية “اوليج كالوجين”، (الذي حكم عليه بعد 30 عاما حكما غيابيا بالسجن لمدة 15 عاما بتهمة الخيانة العظمى).

وما أن وضع “العميل الرئيس” قدمه في داخل المكتب السياسي عام 1980؛ حتى بدأ الكرملين في غضون سنوات قليلة، يفقد أعدادا متتالية من قياداته العليا، في ظروف أخرى غامضة، كان جورباتشوف خلالها يقفز من منصب إلى آخر، نحو القمة.

فقد توفي رئيس الوزراء “كوسيجن” الذي كان يدعم ترشح رئيس الحزب في ليننجراد “رومانف” لمنصب الرئاسة، ثم توفي زعيم الحرس الحديدي ومنظر الحزب “سوسلف”، تبعه موت الزعيم بريجنف الذي كان داعما لترشح صديقه رئيس الحزب في أوكرانيا الرفيق تشيربيسكي.

واستمر حكم سلفه “اندروبوف” أقل من العام ونصف العام، وقيل إنه قتل. ثم توفي الرجل القوي في الاتحاد السوفيتي ووزير الدفاع “اوستينوف”، وتؤكد الشائعات بأن الرجل مات مسموما وزميله الوزير التشيكسلوفاكي.

وصار المريض المتهالك “تشيرننكو” رئيسا للبلاد. وبوفاة تشيرننكو يوم 10 آذار 1985، اجتمعت القيادة السوفياتية لاختيار الرجل رقم 1، وبدا أن معركة الخلافة ستكون بين 4 أشخاص، كان أقلهم حظا وكفاءة هو جاربتشوف الشهير بجورباتشوف، مما يؤكد إن وصوله كان متعمدا ومخططا له من قبل السي أى إيه، وفق الشكوك التى تحولت لمعلومات فيما بعد.

وبدأ الاجتماع الذي سيغير مجرى التاريخ، وسط غياب المرشحين الأقوياء الثلاثة!، فقد كان المرشح الأقوى للمنصب هو الرفيق “تشيربسكي”، وللصدفة المتعمدة! كان الرجل في زيارة لأميركا، وتم تعطيل طائرته، حيث لم يعطى لها الإذن بالإقلاع إلا بعد فوات الآوان.

أما المرشح الثاني رومانف، بطل الفضيحة الكاذبة التي بثها صوت أميركا، من أن الرجل استعمل “محتويات قصر الارميتاج” في عرس ابنته على بطل العالم في الشطرنج اناتولي كاربف”، فقد وصل موسكو بعد أن كان الاجتماع قد انتهى، وقيل بأن ذلك كان صدفة متعمدة أيضا!.

كما أن سكرتير الحزب في موسكو الرفيق “جريشين”، الذي أنهكته شائعات ال “بي بي سي” الكاذبة عن تورطه بالفساد، كان وللصدفة المتعمدة أيضا خارج موسكو.

وتم حذف الخيارات الثلاثة، ليصل جورباتشوف ضمن صفقة، ضمنت حصول صديقه وزير الخارجية المخضرم أندريه جروميكو، على منصب رئاسة الدولة الفخري (يذكر أن جروميكو بعد اعتزاله السياسة عام 1989، طلب عدم ذكر اسم جاربتشوف أمامه).

في بداية حكمه، رفع جاربتشوف شعاري “البيريسترويكا والجلاسنوست”، وهما حق أراد بهما باطل، وهما يعنيان إعادة البناء وحرية التعبير، دون أي تفسير لهما رغم إلحاح الاقتصاديين والسياسيين بضرورة شرحهما للعامة وبضرورة التطبيق خطوة خطوة.

وبدأت عمليات هدم كل شيء بحجة “إعادة بنائه”، وصارت حرية الكلمة لمن سيمتلك المال ووسائل الإعلام، التي سرعان ما سيسيطر عليها وعلى اقتصاد البلاد كلها اليهود الروس.

وبدأت عجلة التغيير في المجتمع الاشتراكي تسير نحو الهاوية والدمار الاقتصادي والأخلاقي.

وتبين فيما بعد، أن الأب الروحي والعراب الحقيقي لهذه السياسة، كان الكسندر ياكفلف، وليس ميخائيل جاربتشوف.

وقبيل وفاته عام 2005، اعترف ياكفلف بارتباطه بوكالة الاستخبارات الأميركية، قبل أن يصبح سفيرا لبلاده في كندا، لتؤكد حقيقة العملية المخابراتية الأمريكية لهدم الاتحاد السوفيتي.

وهكذا جاءت قرارت جاربتشوف بإعادة البناء وحرية التعبير والسماح بالملكية الخاصة والإفراج عن السجناء السياسيين والانسحاب من أفغانستان وإعلانه وقف سباق التسلح النووي وحربه الشعواء ضد المشروبات الكحولية، لترفع من شعبيته داخل وخارج البلاد، حتى أن الصحافة الغربية أطلقت عليه اسم “جوربي”. وسرعان ما اختار جوربي لمنصب وزير الخارجية الرجل الأقل حنكة وعديم الخبرة في السياسة الخارجية، إدوارد شيفارنادزه، ليقودا معا إعادة بناء، والتى في حقيقتها “تدمير” منظومة الدول الاشتراكية وإنهاء حلف وارسو العسكري، وذلك بسحب الدعم المالي والجيوش السوفياتية من ألمانيا الشرقية أولا مقابل 5.4 مليار مارك فقط لا غير!، علما أن ألمانيا الغربية عرضت قبل 30 عاما، مبلغ 124 مليار مارك مقابل وحدة الألمانيتين، مع تعهد دولي بأن تكون الدولة الموحدة دولة حيادية.

ومع نهاية الثمانينات، أتم الرجل إعادة بناء الكتلة الاشتراكية، بعد أن صارت دولا رأسمالية، تتقدم بطلباتها ورجاءاتها إلى حلف الناتو لقبولهم أعضاء مخلصين، بعد أن تم دفن حلف وارسو.

وجاءت كارثة تشيرنوبل، وحادثة هبوط طائرة الشاب الألماني الغربي الشراعية في الساحة الحمراء، حجتان في إجراء تغيرات جذرية في الحزب وفي كل الوزارات.

وجن جنون الاقتصاديين من تبني جاربتشوف لخطة المستشار الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس، بخصخصة كل المؤسسات العامة في البلاد خلال 500 يوم فقط!، وفشلت كل محاولات الدولة العميقة في الاتحاد السوفيتي لوقف الانهيار.

وبدأت أسعار النفط والغاز العالمية بالانهيار، بعد أن كان 40% من الاقتصاد السوفيتي معتمدا عليهما، ولنقل بأن ذلك كان مصادفة متعمدة أيضا!،.

وصارت علامات الفوضى تسطع من كل الجمهوريات السوفيتية، بعد أن أُفرغت رفوف المحلات من كل البضائع دون استثناءات.

وظهرت المافيات، وانتشرت الجريمة المنظمة وغير المنظمة، وحل الفلتان الأمني، بعد أن كان الاتحاد السوفيتي رمزا للأمن والأمان.

وتبين بعد سنوات أن جيفري ساكس، ما هو إلا عميل للسي آي آيه!. وبدأت الجمهوريات تطالب بالاستقلال، واشتعلت الفتن القومية والاشتباكات المسلحة بين الأقليات.

وكان من المستحيل انهيار الدولة السوفياتية دون تحطيم جيشها، شريطة عدم إطلاق رصاصة واحدة نحوه. وهو ما تكفل به ميخائيل جاربتشوف وحده. وفي ذلك يقول ليونيد زمياتين سفير الاتحاد السوفياتي في بريطانيا أثناء زيارة جوربي للسيدة مارجريت تاتشر:- فجأة، ووسط دهشة الجميع، تناول جاربتشوف من حقيبته الخاصة، خريطة للمملكة المتحدة، وفيها تظهر مواقع وإحداثيات توجيه الصواريخ النووية السوفيتية نحو المدن البريطانية، قائلا، بأنه يريد نزع السلاح النووي العالمي.

ثم كشف جوربي لاحقا دون أي مقابل، عن سلاح “العربات القاتلة”، الذي كان يُحَمَلُ على عربات قطارات، كانت تجوب البلاد دون توقف، تحمل كل منها، صاروخا ذو عشرة رؤوس نووية. يذكر أن الأميركان كانوا قد خصصوا 150 مليار دولار لمكافحة هذا السلاح، دون جدوى. كما وافق الرجل من جانب واحد على تخفيض عدد الرؤوس النووية بنسبة 3:1 لصالح الأميركان، بعد أن وافق على تعديل حمل 1500 قاذفة سوفيتية برأس نووي واحد، بدلا من 12 رأسا نوويا. ووافق جوربي، دون أي مقابل أيضا، على تدمير الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى المسماة (ك.أ-KA)، التي تطلق من شاحنات متحركة، والتي كانت قادرة على تدمير كامل أهدافها. وجاءت الطامة الكبرى، عندما وافق جوربي على إهداء الأميركان 53 ألف كيلو متر مربع من المياه الحدودية في الشرق ( 5 أضعاف مساحة لبنان)، الغنية بالثروة السمكية النادرة، إضافة إلى ما اكتشف من احتوائها على 16% من مخزون النفط العالمي.

أما السؤال الثاني، فكان يأتي من شقين:
الشق الأول هو:- لماذا لم يتم إلقاء القبض على جاربتشوف؟، والثاني:- لماذا لم يحاكم الرجل؟.

وجاء جواب الشق الأول يوم 19 أغسطس 1991، عندما قام نائب جورباتشوف، ووزير الدفاع ورئيس المخابرات ووزير الداخلية ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء وسكرتير مجلس الأمن القومي، باعتقال الرئيس في بيته، في أغبى عملية انقلاب في التاريخ، كانت مفضوحة تماما، هى الأخرى، وكان الخاسر الأكبر من تلك المحاولة المريبة، الاتحاد السوفيتي نفسه، وخرج جوربي ضعيفا، بعدما أنهى مهتمه الخائنة، التى كان شعارها البناء المغموس بالهتافات الوطنية الحماسية، وكانت في حقيقتها أكبر عملية هدم في التاريخ لواحد من أعقد الكيانات التى وقفت في وجه الغرب.

والأخطر كان في البديل، المخمور بوريس يلتسن، حيث كان تحاصره عليه علامات استفهام هو الآخر، وهذه الخطورة من اللجوء لعميل آخر، إنقاذا للدولة من عميل حالى، وبالطبع هذا هو دور المؤسسات والدولة العميقة، التى غابت بالمرة، أو تم تغييبه وتوريطها للدقة، بعد استبعاد الكفاءات ونشر مجموعات الثقة فقط، في عملية منظمة لهدم المؤسسات وتدمير الأدمغة وتصدير الرويبضة على كل مستويات الحكم وفي كل الملفات.

وقبل 50 يوما فقط من اندثار الاتحاد السوفيتي، رفع النائب العام للدولة، لائحة شكوى ضد رئيسها “ميخائيل جاربتشوف”، بتهمة الخيانة العظمى، والتفريط بأمن البلاد، وإفشاء الأسرار العسكرية، والتفريط بأراضي الدولة التي أقسم على حفظ ترابها ووحدتها، وتسلمه رشاوى مالية من رئيس كوريا الجنوبية “رو دي هو”، أثناء زيارته لكوريا الجنوبية في إبريل 1991.

وعند سؤال جاربتشوف عن حقيقة تسلمه أموال من رئيس أجنبي، أجاب المتهم جوربي، بصحة ذلك دون إنكار، مدعيا أن الأموال كانت لصندوق دار الأيتام الخيري!. وعن سبب عدم تسليم المبلغ للدولة، ادعى الرجل بأنه نسي ذلك!.

ومع اختفاء الدولة السوفيتية مساء يوم 24 ديسمبر 1991، سقطت كل التهم عن العميل الرئيس جورباتشوف، لعدم وجود المتضرر، وهي الدولة السوفيتية.

ويكفي ما أعترف به جورباتشوف، قبل 3 أيام من الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، في العاصمة البريطانية لندن، ومعه صديقه المقرب “شمعون بيرس” الرئيس الإسرائيلي وقتها، يوم 27 فبراير 2011 ، باعترافه: بأنه لم يكن يوما “شيوعيا”!، مضيفا بأن هدفه طيلة حياته كان هدم الشيوعية!.

وعند سؤاله إن كان له دور في هدم الاتحاد السوفيتي؟ أجاب الرجل حرفيا: ليس هناك أي داع للخجل، لقد كانت الأمور جدية جدآ.. نعم.. نعم.

وأثناء الاحتفال في لندن والرقص على أغنية “هابي بيرذ داي”، كانت فرقة موسيقية من الشباب الروس، تغني له أًغنية وسط موسكو اسمها: يا خائن ..يا خائن، وهذا هو مصير كل “عميل رئيس”

بعد كل هذه الوقائع والاعترافات، هل ترون إنه من الصعب تكرار نموذج جورباتشوف في أى مكان من العالم، وفي أى وقت آخر ؟!

اقرأ ايضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى