أسماء خليل تكتب: ليالي باريس

لن تمر المشاهد والأحداث علينا بالصغر مرور الكرام، فكل شيء يتم حفره داخل ذاكرتنا وكأنه نقشًا على الحجر حقًّا.. لن أنسى وأنا طفلة صغيرة مازالَت الحياةُ تعلمني في مدارسها- التي أرشدَتْ كل معلميها أن يعلموا ساكنيها بكل إتقان وبراعة – حلقات البرنامج الفرنسي المُترجم “ le paris sorieʼe “ليالي باريس”.. وكانت فكرته قائمة على استضافة طفل ويرافقه والديه وأخوته.
لم يكن برنامجًا عاديًّا، فقد كان رغم اختلاف الثقافات العربية والفرنسية؛ إلَّا أنه كان يرسخ بعضًا من القيم وسط البهجة، التي تتولد من خلال طريقة مُحاورة مقدم البرنامج مع الأطفال، وكيف لهؤلاء الأطفال الأبرياء أن يصنعوا روحًا من السعادة تترك بصمة مُتعمقة في قلوب الحاضرين والمشاهدين،،
كان هناك طرح فلسفي أعمق من مجرد التحاور مع الأطفال وصنع البهجة، ربما لم يكن مقصودًا لدى مُعدي البرنامج، ولكن الأمر كان مُختلفًا للآخرين.. فعلى سبيل المثال في إحدى الحلقات تم استضافة فتاة صغيرة، طلب منها مُقدم البرنامج أن تأتي إليه لتقف في مواجهة الحاضرين وتتحدث..
وبعد سؤالها عن عمرها والمرحلة التعليمية التي هي بها، سألها : أين والديكِ؟.. لتشير الفتاة الجميلة إلى رجل وامرأة آية في الرقة والشياكة والأناقة، ثم سرعان ما سألها : ماذا يعمل والدكِ؛ لترد الفتاة بعدما سلطت الكاميرات الضوء على الوالد- الذي غمرت ابتسامة عريضة وجهه- ردًّا لم يكن متوقعًا لدينا نحن العرب؛ لتقول: والدي يعمل حاملًا لأنابيب الغاز ويوصلها للمنازل، ثم سألها سؤالًا آخرًا وسط بهجة من جميع الحضور: وماذا تعمل أمُّكِ؟.. لترد قائلة : أمي تساعده في عمله!!..
إنهما يجلسان وسط الجميع ومن الآباء والأمهات من هو سفير أو وزير، بل ويُكِّنُّ لهما الجميع كل احترام وتقدير.. كانت البهجة تعلو وجهيهما ولم يخجلا أبدا من طبيعة عملهما، التي تعد بالدول الأخرى وظيفة مُتدنية المستوى..
ماذا يفعل هؤلاء القوم ليكون العمل مُقدسًا لديهم بتلك الطريقة؟!.. ماذا يفعل هؤلاء ليزرعوا المُساواة بين البشر دونما خُطَب أو إرشادات لابد من تكرارها ليلا نهارا.. إنها القيمة الحقيقية للإنسان كونه مجرد إنسان وفقط، وليس الأهم ماذا يعمل أو لأي طبقة مجتمعية ينتمي،،

لقد مر الزمن بمروره المعتاد على الكثير من السنوات.. فهل مر الزمان على العقول ورسَّخ بعض المفاهيم لديهم أو بمعنى آخر أعاد صياغتها؟!.. أم كان مروره عابرًا؟!.. هل تغيرت نظرة العالم العربي لمن يمتهنون بعض المهن المتدنية المستوى؟!.. أم أنهم مازالوا لا يعلون من قدر العامل البسيط الذي يحمل قمامتهم، أو صانع الحلوى الذي يمحو عنهم مرارة أفواههم؟!.. أو صانع الأحذية الذي يحمي أقدامهم من التشقق بالطرقات؟!.. أم…. إلخ.
لماذا تتغير كثير من الأشياء وتظل أخرى متصنمة مُتجمدة، وكأنها رواسخ فكرية رغم أنَّ الدوام لله فقط!!.. لن يتقدم أي شعب بالعالم إلا إذا اعترف المهندس أنه لن يكمل عمله بدون عمال البناء البسطاء، ولن يتقدم العالم إلَّا إذا اعترف الطبيب بالعاملة التي تقوم بتشغيل الأجهزة التي يُعالج بها المرضى، ولن يتقدم الفنان إلا إذا اعترف بفضل المُتابع الذي يشجع فنه مهما تكن مهنته او مستواه.. لن ترتقي الشعوب إلا إذا شعر المواطنين بقيمة كل أفراده وانصهر الجميع في بوتقة واحدة وهي صالح الوطن..

ما بال جميع البشر خلقهم الله من بوتقة واحدة تحوي ترابًا، فلماذا لا يريد الأنصار مع إخوته في نفس البوتقة التي إليها يعودون!.

زر الذهاب إلى الأعلى