د. قاسم المحبشي يكتب: في معنى الدهشة الفلسفية وأشياء أخرى (٢- ٢)

وهكذا بدأت الفلسفة آدبًا أسطوريًّا ثم أمّ للعلوم وفي الأخير عادت إلى الأدب لتجعل منه حصان طروادة لتسرُّب الأفكار الفلسفية. وإذا كانت الفلسفة ربيبة الدهشة بحسب أفلاطون فما هي الدهشة ؟ هي حالة شعورية تنتاب الكائن الإنساني في لحظة مباغته من تأمُّل العالم على نحو قصدي أشبه بقدح زناد الوعي المتسائل الحائر بإزاء ظواهر الوجود والحياة والموت.
الدهشة حالة اغتراب الوعي الشقي، وكما كتب الفيلسوف العربي أحمد نسيم برقاوي ” يعيش المثقف عادة حال الاغتراب الذي لا يفارقه طوال حياته الإبداعية. بل قُلْ إنَّ الاغتراب هو أسُّ التجربة الكتابية لمثقف أوتي أيَّ حظ من موهبة الإبداع. وآية ذلك أنَّ المثقف هو دائمًا ابن الممكن المتجاوز للواقع، ولهذا فهو يعيش تجربة المايجب أن يكون على نحو مستمر، يعيش تجربة التناقض بين أحلامه وآماله وواقعه، ويُعبِّر عن هذا التناقض في الفن والأدب والفلسفة، بوصفه مُتمرِّدًا، والتمرُّد هُنا هو التعيُّن الحقيقي لاغتراب المثقف”.
نَعَم، الدهشة لا تأتي إلَّا في لحظة اغتراب الكائن، إذ تجعله يرى العالم عن بُعْد بعكس القرب المُدْمَج، فأكثر الأشياء قُرْبًا مِنَّا هي أكثرها بُعْدًا عن فهمنا! فالغارق بالبحر لا يراه والغاطس في الغابة لا يراها، وكلما ابتعدنا مسافة عن الأشياء التي تغرقنا كلما استطعنا رؤيتها بوضوح أكثر وتمكنَّا من تقيمها وتقديرها كما هي عليه بالواقع لا كما نُحبُّها أن تكون! لذا قيل إنَّ الحُبَّ أعمى! لأنَّ المُحبِّين يقتربون من بعضهم حَدَّ الالتصاق والتوحُّد بما يجعلهم عميانًا عن رؤية بعضهم واكتشاف المميزات والعيوب.البعد يكشف والقرب يعمي. إنَّنا نحتاج إلى الفلسفة لكي نستطيع رؤية الاشياء التي نعيشها كل لحظة في حياتنا بحسب (روسو).
والدهشة ليست مُجَرَّد تعجُّب، بل هي أشبه بالكشف والانكشاف، وهي بحسب (جان جرش) في كتابه “الدهشة الفلسفية” لحظة مفارقة في حياة الكائن يتفتح عقله لاستقبال إشارات الحقيقة سواء كانت تلك الحقيقة مرتبطة بالماديات أو بالإلهيات، فالإنسان العارف هو الذي يكون مندهشًا من أبسط وأقل الأشياء الموجودة في العالم، لأنه يرى الأشياء بمنظار الاندهاش، وهذا الاندهاش هو الذي يلهمنا لعبة التساؤل وسط غموض المعنى وصخب الحياة وتمظهراتها الحسية الانفعالية. وهكذا تعاود الفلسفة الحضور في كل عصر من العصور.

اقرأ أيضا.. د. قاسم المحبشي يكتب: في معنى الدهشة الفلسفية وأشياء أخرى ١- ٢
من نحن؟ وماذا نعرف وكيف نعيش؟
تلك الفكرة هي التي تداعت إلى ذهني في صالون الواحة الأدبي الثقافي حينما طلب منِّي تقديم موجزٍ عن كتابي (استئناف الدهشة؛ تأملات في آفاق الفلسفة وواقعها).
كانت أمسية رائعة أدارها الأديب المثقف محمد رفعت الشيباني، وأشرف عليها الأستاذ الشاعر الناقد الناشر إبراهيم موسى النحاس مؤسس الصالون، بحضور كوكبة من الأدباء والأديبات المصريين والعرب على مدى ثلاث ساعات منذ السابعة مساءً حتى العاشرة ليلًا في نادي هيئة خرِّيجي الجامعات في وسط البلد. فشكرًا لمصر الحانية التي منحتنا تلك الفرصة الطيبة للتفكير والكتابة والنشر في واحتها وارفة الظلال

زر الذهاب إلى الأعلى