د. ناجح إبراهيم يكتب: بائعة الحلوي

“خمسون عاماً مرت من عمرها وهى تنتقل من شقاء لشقاء وتكابد الألم تلو الآخر، ورغم ذلك تشع السكينة من وجهها”.. عبارة تلخص حكمة الأيام والشهور والسنين، فى حياة امرأة تذكرنا قصتها بتراجيديات السينما المصرية العريقة، إنها قصة بائعة الحلوى كما يرويها د. ناجح إبراهيم فى مقاله المنشور أمس “الاثنين” فى جريدة الوطن، تحت عنوان: “بائعة الحلوى”، وفى التالى نص المقال:

جاوزت الخمسين، زوجها كفيف، تخرج من البيت تحمل المناديل الورقية وبعض الحلوى تبيعها فى شوارع الإسكندرية، تظل كذلك حتى تجمع ما تيسر، تتسول ولكن بطريقة تحفظ بعضاً من كرامتها.
أهل الإحسان يعرفونها، كلُ يعطيها ما تيسر تقرباً إلى الله وليس ثمناً لهذه الحلوى الرديئة التى يطلبونها جبراً لخاطرها.
جلست قليلاً على محطة الترام، سرحت تستعيد شريط حياتها المؤلم؛ أمها كفيفة ماتت ثم مات الأب، وإذا بشقيقها من أبيها يأخذها ويسافر بها من دمنهور إلى القاهرة ويسلمها إلى أسرة تاجر بلدياتهم لتعمل كخادمة وهى فى السابعة.
كانت لا تعرف شيئاً عن الخدمة فى البيوت، فتخطئ كثيراً، ومن كثرة عملها فى الماء والتنظيف والمسح تتبول على نفسها ليلاً، كانت زوجة التاجر تعاقبها أشد العقوبات، كل التشوهات التى فى وجهها من ضربات هذه السيدة تارة بالمغرفة أو بالشوكة، فضلاً عن الخرطوم والعصا، مروراً بحلق الشعر.
كان التاجر طيباً يشترى لها الحلوى والشيكولاتة ويوصى بها، كانت تناديه: «يا عمى»، أصبحت مع الأيام ماهرة فى كل شىء، مكثت عندهم 13 عاماً، حتى أصبح الأولاد لا يستغنون عنها.
لم تكن تعلم أن لها مرتباً يأخذه شقيقها لينفقه على المخدرات، ضجت من كثرة الإهانة، ذهبت إلى أسرة طيبة عاملوها كابنتهم، يساوون بينها وبين أولادهم، سكنت نفسها لهذه الأسرة الخلوقة، فوجئت بإعلان للأسرة الأولى فى الصحف تطالبها بالعودة لأن الأولاد يحتاجونها بشدة.
قرأ شقيقها الإعلان وعرف مكانها واصطحبها قسراً إليهم، ولكنها الآن شابة تملك الرفض والإصرار عليه، لا سيما بعد أن علمت أن شقيقها هذا أكل عرقها وضيعه على المخدرات. اكتشفت أن لها شقيقة كبرى من أبيها أيضاً، ظنت أن الحياة قد ابتسمت لها فإذا بها تظلم من جديد، أقنعتها شقيقتها بالزواج من سائق تاكسى بالإسكندرية، اكتشفت بعد فترة أنه يتعاطى المخدرات، وعصبى، ولا يكتفى بالحشيش، ولكن معه البرشام، لم تجد بداً من الحياة معه بحلوها ومرها.
فى يوم من الأيام استوقفته بعض البلطجية وبعدها أصابته حالة نفسية ظل على أثرها عاماً كاملاً فى المنزل، لم تكن وقتها تملك ثقافة ولا أموالاً للإنفاق على الطب النفسى. تذكرت الآن كيف بدأت تعود للعمل والخدمة فى البيوت من جديد، أى عمل تقبله بداية من غسل السجاد إلى مسح السلالم إلى الطبخ والتنظيف، ما تسبب فى إجهاضها عدة مرات.
حينما كان يرى الأموال التى تجمعها من هذا العمل المضنى يجن جنونه شوقاً للمخدرات ويظل يضربها حتى تستسلم وتعطيه ما معها، فى كل مرة كانت تدعو عليه: «حسبنا الله ونعم الوكيل فيك»، على عادة المصريين حين يظلمون.
كانت تتذكر وقتها علقة زوجة التاجر فى القاهرة، اليوم هى تعيش فى الإسكندرية، ولكن الضرب والإهانة يسيران خلفها، ظلت تعمل وتعمل واشترت لزوجها «تروسيكل» يجمع عليه الزبالة.
بعد عدة أعوام لاحظ أنه لا يرى الكتابة أسفل التليفزيون، ذهبت به إلى طبيب العيون فصدمهم بقوله: «عينه باظت خلاص.. اعملوا أشعة وتحاليل ويحضر لجراحة عاجلة»، باعوا التروسيكل وساعدها الجميع لأجل هذه الفحوصات، اكتشفوا أنهم تأخروا طويلاً وأنه أصيب بجلوكوما أفقدته البصر كلياً.
بعد العمى ازداد عصبية وتوقف رغماً عنه عن المخدرات، فالأسرة لا تجد الطعام، ظلت تعمل وتعمل، وعصبيته تزداد وتزداد.
غضبت منه فتركته وذهبت لبعض أقاربها فى إحدى القرى المتاخمة للإسكندرية، زوّجه أهل الخير بامرأة ترعاه، وتوسطوا بعد سنوات لتعود إليه، خاصة بعد وفاة شقيقتها. زوّجت ابنتيها من زوجين يجمعان الزبالة ويتاجران فيها، تقاسمت مع الزوجة الصغيرة العمل، هى تعمل فى خارج المنزل وتجلب الرزق والأخرى تهتم بالأولاد، تطوف بالمناديل والحلوى، وأحياناً لا يكون معها ثمن شرائها فيمهلها التاجر.
الصدقات مع معاش «تكافل وكرامة» يسدان بعض الرمق.
تحمد الله أن لديها فى المنزل بعض اللوبيا والمكرونة من شهر رمضان الذى يغمر كل الفقراء بالكرم والجود.
تحمد الله على كل حال، تتذكر أنهم دوماً يختصرون وجبة من الثلاث، فأحياناً لا نفطر، أو أشترى بـ2 جنيه فلافل، 2 جنيه فول على الغداء فتضرب عصفورين بحجر.
بعد كل هذه السنوات من العنت لا تستطيع العمل الشاق ولا مسح السلالم، هى تمر يومياً بالحلوى الرديئة والمناديل الورقية وكل يجود بما تيسر.
تردد دوماً: «المصريون طيبون»، ولولا طيبتهم وكرمهم ما استطعنا العيش ليلة واحدة، لم نبت جوعى أبداً، الرزق يسوقه الله إلينا ولا أرجع للأسرة إلا ومعى طعامهم، بناتى المتزوجات ليسوا على ما يرام مع أزواجهم، ولكن الحمد لله أن لهم أزواجاً وأولاداً، زوجى الآن أعقل وأهدأ فقد هدّه العمر والمرض.
خمسون عاماً مرت من عمرها وهى تنتقل من شقاء لشقاء وتكابد الألم تلو الآخر، ورغم ذلك تشع السكينة من وجهها، تبدو الأيام متشابهة فى كل شىء فى صعوباتها وآلامها وجراحاتها، الإيجابى الوحيد فى حياتها أنه لا يضربها ولا يجرح كرامتها أحد، تردد دوماً: لو عشت مع الأسرة الطيبة بالقاهرة لكان حالى أفضل، ولكن الفقراء والأيتام لا يملكون ترف الاختيار، حكمة الحياة لا تغيب عنها فهى تملك حظاً من اسمها، هكذا تعيش «حكمت» بائعة الحلوى.

زر الذهاب إلى الأعلى